كنت طبيبا لصدام الجزء الثاني
صفحة 1 من اصل 1
كنت طبيبا لصدام الجزء الثاني
«كان ينظر الينا الواحد تلو الآخر دون ان ينبس بكلمة، كان له حضور قوي. كنت اشعر كما لو كنت اقف في مهب محرك نفاث عندما كان يصوب عينيه نحوي. بدأت ارتعد»، ذلك ما رواه لي الكمالي فيما بعد مضيفا: «كان لدينا جميعا الشعور نفسه عندما خرجنا من عنده».
كان شهر رمضان المعظم قد بدأ عندما بدأ ية الله واتباعه يتحركون من النجف الي البصرة ليعبروا من هناك الحدود الي الكويت. غير انه لم يسمح له بالعبور في اول محاولة بسبب بعض المشاكل المتعلقة بالتأشيرة الخاصة به، فاضطر الي الرجوع وقضاء الليل في فندق قريب من مطار المدينة.
كان مدير الصحة في المحافظة آنذاك، نزار شاهبندر، عضوا في لجنة مهمتها الاشراف علي كل شيء يخص فترة اقامة الخميني والاعتناء به. «كان الخميني غاضبا وثائرا بشكل جنوني»، ذلك ما قاله لي شاهبندر فيما بعد. لم يكن يرغب في التحدث مع احد، كما امتنع عن تناول وجبة الافطار في الفندق. لم يتناول الخميني شيئا من الطعام الا عندما عبر الحدود الي الكويت في مساء اليوم التالي، حيث اراد البقاء هناك الي ان يستقل الطائرة الي فرنسا.
ربما لم يكن غريبا علي صدام - الذي كانت تُنقل اليه بالطبع كل التفاصيل ــ ان يتوقع وفق تصوراته البدوية ان الخميني سوف ينتقم لنفسه ان آجلا او عاجلا فكان لابد لصدام اذن من ان يسبقه.
تحول مستشفي الواسطي الي مستشفي عسكري صرف فور نشوب الحرب. ولاننا كنا متخصصين في جراحة التجميل واعادة التاهيل، فان اصعب حالات الجرحي واكثرها تعقيدا كانت ترسل من الجبهة الينا، ويتضح من ملفات المرضي اننا قد قمنا بأكثر من اثنتين وعشرين الف عملية جراحية في هذا المستشفي في اثناء الاعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب. اما حجم الموت والمعاناة فانه لا يمكن لأحد ان يقدر ابعاده الا اذا كان هو نفسه قد شهد مثل هذه الماساة الانسانية العظيمة لفترة طويلة.
ما زالت بعض الحالات المأساوية تسلبني في الليل نومي، مثل حالة الملازم ذي الواحد والعشرين ربيعا الذي اتي الينا في خريف عام 1982 من الجبهة مباشرة الي مستشفي الواسطي، ومعه خمسة عشر آخرون من الضباط والجنود المصابين. كانوا قد احتموا تحت شاحنة كبيرة عندما تعرضوا لوابل من قصف المدفعية اليرانية المكثف، غير ان الشاحنة قد قصفت علي الفور. بترت شظية كبيرة الذراع اليمني للملازم تماما.
كان يعطي انطباعا بانه اصغر من سنه كثيرا، وكان يبدو انه يتوق إلي حياة عادية مثل اي شاب في عمره، غير ان ذراعه التي ضاعت سلبته كل امل في المستقبل.
حاولت ان اسرّي عنه.
«لقد كنتَ شجاعا وقدمت كثيرا لبلادنا. ستحصل الآن علي وسام تقديرا لشجاعتك، ويمكنك ان تحمله طيلة حياتك في فخر»، هذا ما قلته.
نظر الي عيني ثم اعقبها بنظرة الي ذراعي اليمني. وهنا لم يعد في مقدور الملازم الشاب ان يمسك دموعه.
فهمتُ قصده.
كان الجيش العراقي قد تمكن في بدية الحرب من احراز بعض النجاحات، غير ان الايرانيين في خلال عام 1982 كانوا قد دحروا قوات صدام المهاجمة. وسعت دول عربية عديدة للتوصل الي وقف اطلاق النار، لكن الخميني الذي كان مزهوا بالانتصارات التي احرزها في معظم الجبهات قرر الا يوقف القتال الذي تحول الي حرب استنزاف كبدت الجانبين خسائر فادحة.
ومع الوقت تم استدعاء جميع الرجال الذين كانوا قادرين علي حمل السلاح، والذين كان يمكن الاستغناء عنهم في وظائفهم الاساسية، ففقدت الاسرة وراء الاخري عائلها، وعاش كثيرون في فقر مدقع.
تجنيد بالقوة
حكي لي احد اقربائي عن اسرة كانت قد انتقلت في اثناء الحرب من البصرة الي احدي الضواحي في الجنوب الشرقي من بغداد. كانت الاسرة تتكون من رجل وزوجته وطفل رضيع يبلغ من العمر ثلاثة اشهر، وما ان انتقلوا الي تلك الضاحية حتي كان مندوب حزب البعث هناك قد اتي اليهم وطلب من الرجل ان يسجل نفسه بأقصي سرعة ممكنة للمشاركة في الحرب مع قوات الجيش الشعبي.
«ارجوك، كن كريما وساعد زوجتي»، هكذا توسل الشاب الي الرجل قبل ان يذهب إلي الحرب، فهو لم يكن يعرف احدا في بغداد.
بعد ذلك بأسبوعين ري الجيران زوجته تجلس علي السلم باكية، فلم يكن لديها ماء او اي شيء يؤكل في شقتها. كان الطفل قد فارق الحياة. ولم تجرؤ الام علي ان تغادر المنزل وتطلب المساعدة.
تولي الجيران دفن الطفل الرضيع واهتموا بالأم الشابة القادمة من البصرة. وبعد ذلك بشهر وصل نعش الزوج من الجبهة.
كان صدام يدرك ان عليه ان يخفف من المصير المر للحرب، فشرع يوزع السيارات علي اسر الجنود الذين سقطوا في الحرب.
حصلت كل اسرة علي سيارة جديدة ومبلغ عشرة آلاف دينار، وهو ما كان يعادل آنذاك ثلاثين الف دولار اميركي. وكان نادرا ان تُسلَّم السيارة ويُدفع مبلغ التعويض بلا مشاكل. ففي حال اذا ما كان المتوفي متزوجا، فقد كانت اللوائح تنص علي ان زوجته هي المستحقة، وهو الامر الذي كان والدا المتوفي واخوته نادرا ما يقبلونه. كانت هذه الخلافات كثيرا ما ينجم عنها الضرب واطلاق النيران والقتل اذا ما استعانت ارملة المتوفي بوالدها واخوتها وابناء اخواتها ليساعدوها!
كذلك فقد واحد من الممرضين في مستشفي الواسطي ولده في جبهة القتال. ما زلت اراه امامي. كان منهارا تماما علي الارض من شدة الحزن بحيث لا يمكنك مواساته. لم يمر سوي اسبوعين الا وكان يقود سيارة تويوتا كورونا جديدة وقد لطّخ ابواب السيارة بالدماء، فقد ذبح خروفا وسكب دماءه علي السيارة ليدفع عنها الحسد. وها هو ذا الاب يضحك الآن ملء شدقيه!
في بادئ الامر كانت توزع سيارات تويوتا كورونا يابانية الصنع. وعندما ارتفع عدد الضحيا، انخفض مستوي السيارات الي السيارة فولكس فاغن باسات التي كانت تصنع في البرازيل وتستورد من هناك. كانت السيارات تأتي الي باب المنزل، غير ان معظم الارامل والاسر لم تكن تستطيع قيادة السيارات.
وبالرغم من ذلك فقد كانت السيارات تستخدم علي الفور، فتصاعد عدد الحوادث بشكل جنوني، وساهم عدد ضحيا حوادث المرور في ارتفاع تلال القتلي. وقد سمعت ان ذلك كان احد الاسباب التي جعلت صدام يوقف مشروع «سيارة في مقابل الابن» في وسط الحرب.
تم يضا استنفار ما عرف بالجيش الشعبي في بديات الحرب المبكرة. كانت هذه الميليشيا يسيطر عليها حزب البعث، وكانت قد اسست في عام 1970 لتتولي التدريب العسكري الاساسي لكوادر الحزب، فمثلت بذلك ثقلا مضادا للجيش النظامي في حال تدبير ضباطه لمحاولة انقلاب.
معاقبة رافض التجنيد
في خريف عام 1981 طُلب من اعضاء حزب البعث في جميع ارجاء العراق ان يكونوا قدوة لغيرهم وان يتطوعوا للخدمة العسكرية في الجيش الشعبي. سري هذا الامر يضا علي ممثلي الحزب البارزين، غير ان كثيرا منهم رفض تنفيذ الامر بدعوي انهم ليس بمقدورهم الذهاب الي الجبهة لاسباب مختلفة، صحية او شخصية علي حد سواء.
كان الدكتور هاشم جابر واحدا من هؤلاء. كان استاذا في طب الاسنان ورئيسا لجامعة بغداد، وكان يعاني منذ وقت طويل متاعب في الكلي وضغط الدم المرتفع. وكانت عيادته الخاصة تقع بجوار عيادة جراحة التجميل الخاصة بي، فكنا زملاء علي علاقة جيدة واصدقاء. وفي ديسمبر عام 1981 تلقي الخبر بان عليه ان يسجل اسمه للخدمة العسكرية في قاعة الخلد بجوار القصر الجمهوري مع اربعمائة وعشرين عضوا من اعضاء حزب البعث ذي النفوذ الكبير.
كان صدام رقيقا، وكان صوته حنونا عندما افتتح الاجتماع.
«في بادئ الامر اود ان ادعو كل هؤلاء الذين ليسوا في حالة صحية جيدة او الذين يشعرون بانهم منهكو القوي، او لديهم غير ذلك من الاعذار القهرية التي تمنعهم من الانضمام إلي صفوف الجيش الشعبي كغيرهم، ان يتفضلوا بالجلوس في هذه القاعة الي اليسار»، ذلك ما قاله صدام.
نفذ دكتور جابر ومعه مائتان وثلاثون من اعضاء حزب البعث ما طلب منهم. كان من بينهم عديد من نواب الوزراء واعضاء كثيرون في مجلس الشعب.
«هنا اعلن إقالتكم بلا سابق انذار. لا اريد ان اراكم مرة اخري في حزب البعث»، ذلك ما قاله صدام.
إلي الجبهة
وفي آخر الامر ارسل هؤلاء الاعضاء البالغ عددهم مائتين وثلاثين الي الجبهة.
كان من المقرر ان يعقد لقاء القمة لرؤساء حكومات دول عدم الانحياز في عام 1982 في بغداد. تكلفت الاستعدادات مبالغ طائلة، فقد امر صدام ببناء فندق جديد، وهو فندق الرشيد، للمشاركين في القمة من اكثر من مائة دولة. كما قام بشراء عدد كبير من السيارات المرسيدس الليموزين للتنقلات، وغير ذلك الكثير.
وبسبب الحرب والحالة الامنية غير المستقرة في بغداد، حيث كانت تتعرض المدينة بشكل مستمر للهجمات اليرانية بالقنابل والصواريخ، اجلت القمة لمدة عام آخر وتقرر انعقادها في العاصمة الهندية نيودلهي. فتفتق ذهن احد الخبثاء من معسكر الرئيس عن فكرة استخدام السيارات المرسيدس الفاخرة الجديدة كهديا للاكفاء من المهندسين والمعماريين والاطباء والمعلمين والكتاب والممثلين والنحاتين وغيرهم من ممثلي الثقافة لمكافأتهم علي ما اسدوه من خدمات فائقة لوطنهم في اثناء الحرب التي كانت لا تزال مستمرة.
مرسيدس مكافأة
طُلب مني ان اتوجه إلي أحد قصور صدام لاستلم مكافأتي المتحركة علي عجلات، وذلك ليس بوصفي فنانا، وانما بوصفي طبيبا بعد ان قابلنا صدام، وكنا خمسة وعشرين طبيبا من جميع انحاء العراق، لتكريمنا بسبب معالجتنا للجرحي. ادهشني ذلك بعض الشيء لان السكرتير الخاص بصدام، أرشد ياسين، كان في الاعوام السابقة كثيرا ما يتصل بي تلفونيا او يأتي إليَّ ليخبرني كيف ان الرئيس معجب بإنتاجي الفني الذي لفت انتباهه في برامج التحقيقات التلفزيونية، او في المقالات النقدية في الصحف والمجلات.
سارق آثار
كان ياسين طيارا ولواء في السلاح الجوي، وكان هو نفسه مهتما اهتماما كبيرا بالفن والتحف، لكن هذا الاهتمام لم يكن مجردا تماما من الاغراض الشخصية. كان قد عزل من منصبه كسكرتير شخصي لصدام عندما نُشرت في الجرائد مقالات فحواها ان العديد من التحف العراقية النادرة التي يبلغ عمرها آلاف السنين قد سرقت وهُرِّبت خارج البلاد وبيعت بالمليين في السوق السوداء الدولية للآثار. كان اسم اللواء قد ذُكر في هذه الفضيحة التي انكرها اللواء ارشد عدة مرات، ولكن لأنه كان متزوجا من اخت صدام، نوال، فقد قدر له ان يبقي علي قيد الحياة، بعد عزله عن منصبه.
كنا زهاء خمسة وعشرين طبيبا ممن أُمروا بالذهاب الي قصر الرئاسة ليتسلم كلٌّ منا واحدة من السيارات الباقية كمكافأة لنا علي خدماتنا في الحرب. كان ذلك بعدما تقرر عدم انعقاد قمة دول عدم الانحياز لعام 1982 في بغداد. وقد اكد صدام اهمية الدور الذي قمنا به «بالنسبة إلي الجنود والضباط في الجبهة، وبالنسبة إلي أسرهم التي كان عليهم ان يتركوها ليحاربوا العدو.
ان الرجال من امثالكم هم الذين سيخلدون في تاريخ العراق، وليس رجال الاعمال واصحاب الملايين الذين لا يعنيهم سوي التربح».
ثم سلم علي كلٍّ منا وصافحنا باليد، كما اخذت لنا صورة جماعية بجانبه. وعندما وصل إليّ، توقف بعض الوقت امام اسمي.
سألني: «هل أنت بالمصادفة الفنان علاء بشير»؟
«شيء لا يعقل»، قالها صدام عندما اجبته انه انا. «لا تنصرف بعد ذلك لكي يمكننا التحدث سويا».
لوحات وتماثيل
بعدما انصرف بقية الاطباء، اخذ صدام يثني علي لوحاتي وتماثيلي يما ثناء. لم يكن يعنيه في المقام الاول انني انا وزملائي في مستشفي الواسطي قد حققنا بعد اندلاع الحرب تقدما رائدا، وطورنا اساليب جديدة في مجال جراحة التجميل وجراحة اعادة التاهيل، وان ابحاثنا قد قُبلت ونشرت في الصحف العالمية البارزة.
«طالما قرأت ان اطباء في اوروبا كانوا في الوقت نفسه من مشاهير الكتاب والموسيقيين والمثّالين. وعلي ما يبدو فان لدينا الآن لأول مرة في تاريخ العراق جراحا فذا وفنانا عظيما في الوقت نفسه. انا سعيد وفخور ان يكون في بلادنا شخص مثلك». وبعد ذلك بثلاثة يام اتصل بي احد العاملين في مكتب صدام واخبرني اني قد صرت عضوا في فريق الاطباء الخاص بالرئيس.
25 طبيباً كانوا يهتمون بصدام.. ويدفع قيمة استشاراتهم حتي لا يكون مديناً لأحد
كان شهر رمضان المعظم قد بدأ عندما بدأ ية الله واتباعه يتحركون من النجف الي البصرة ليعبروا من هناك الحدود الي الكويت. غير انه لم يسمح له بالعبور في اول محاولة بسبب بعض المشاكل المتعلقة بالتأشيرة الخاصة به، فاضطر الي الرجوع وقضاء الليل في فندق قريب من مطار المدينة.
كان مدير الصحة في المحافظة آنذاك، نزار شاهبندر، عضوا في لجنة مهمتها الاشراف علي كل شيء يخص فترة اقامة الخميني والاعتناء به. «كان الخميني غاضبا وثائرا بشكل جنوني»، ذلك ما قاله لي شاهبندر فيما بعد. لم يكن يرغب في التحدث مع احد، كما امتنع عن تناول وجبة الافطار في الفندق. لم يتناول الخميني شيئا من الطعام الا عندما عبر الحدود الي الكويت في مساء اليوم التالي، حيث اراد البقاء هناك الي ان يستقل الطائرة الي فرنسا.
ربما لم يكن غريبا علي صدام - الذي كانت تُنقل اليه بالطبع كل التفاصيل ــ ان يتوقع وفق تصوراته البدوية ان الخميني سوف ينتقم لنفسه ان آجلا او عاجلا فكان لابد لصدام اذن من ان يسبقه.
تحول مستشفي الواسطي الي مستشفي عسكري صرف فور نشوب الحرب. ولاننا كنا متخصصين في جراحة التجميل واعادة التاهيل، فان اصعب حالات الجرحي واكثرها تعقيدا كانت ترسل من الجبهة الينا، ويتضح من ملفات المرضي اننا قد قمنا بأكثر من اثنتين وعشرين الف عملية جراحية في هذا المستشفي في اثناء الاعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب. اما حجم الموت والمعاناة فانه لا يمكن لأحد ان يقدر ابعاده الا اذا كان هو نفسه قد شهد مثل هذه الماساة الانسانية العظيمة لفترة طويلة.
ما زالت بعض الحالات المأساوية تسلبني في الليل نومي، مثل حالة الملازم ذي الواحد والعشرين ربيعا الذي اتي الينا في خريف عام 1982 من الجبهة مباشرة الي مستشفي الواسطي، ومعه خمسة عشر آخرون من الضباط والجنود المصابين. كانوا قد احتموا تحت شاحنة كبيرة عندما تعرضوا لوابل من قصف المدفعية اليرانية المكثف، غير ان الشاحنة قد قصفت علي الفور. بترت شظية كبيرة الذراع اليمني للملازم تماما.
كان يعطي انطباعا بانه اصغر من سنه كثيرا، وكان يبدو انه يتوق إلي حياة عادية مثل اي شاب في عمره، غير ان ذراعه التي ضاعت سلبته كل امل في المستقبل.
حاولت ان اسرّي عنه.
«لقد كنتَ شجاعا وقدمت كثيرا لبلادنا. ستحصل الآن علي وسام تقديرا لشجاعتك، ويمكنك ان تحمله طيلة حياتك في فخر»، هذا ما قلته.
نظر الي عيني ثم اعقبها بنظرة الي ذراعي اليمني. وهنا لم يعد في مقدور الملازم الشاب ان يمسك دموعه.
فهمتُ قصده.
كان الجيش العراقي قد تمكن في بدية الحرب من احراز بعض النجاحات، غير ان الايرانيين في خلال عام 1982 كانوا قد دحروا قوات صدام المهاجمة. وسعت دول عربية عديدة للتوصل الي وقف اطلاق النار، لكن الخميني الذي كان مزهوا بالانتصارات التي احرزها في معظم الجبهات قرر الا يوقف القتال الذي تحول الي حرب استنزاف كبدت الجانبين خسائر فادحة.
ومع الوقت تم استدعاء جميع الرجال الذين كانوا قادرين علي حمل السلاح، والذين كان يمكن الاستغناء عنهم في وظائفهم الاساسية، ففقدت الاسرة وراء الاخري عائلها، وعاش كثيرون في فقر مدقع.
تجنيد بالقوة
حكي لي احد اقربائي عن اسرة كانت قد انتقلت في اثناء الحرب من البصرة الي احدي الضواحي في الجنوب الشرقي من بغداد. كانت الاسرة تتكون من رجل وزوجته وطفل رضيع يبلغ من العمر ثلاثة اشهر، وما ان انتقلوا الي تلك الضاحية حتي كان مندوب حزب البعث هناك قد اتي اليهم وطلب من الرجل ان يسجل نفسه بأقصي سرعة ممكنة للمشاركة في الحرب مع قوات الجيش الشعبي.
«ارجوك، كن كريما وساعد زوجتي»، هكذا توسل الشاب الي الرجل قبل ان يذهب إلي الحرب، فهو لم يكن يعرف احدا في بغداد.
بعد ذلك بأسبوعين ري الجيران زوجته تجلس علي السلم باكية، فلم يكن لديها ماء او اي شيء يؤكل في شقتها. كان الطفل قد فارق الحياة. ولم تجرؤ الام علي ان تغادر المنزل وتطلب المساعدة.
تولي الجيران دفن الطفل الرضيع واهتموا بالأم الشابة القادمة من البصرة. وبعد ذلك بشهر وصل نعش الزوج من الجبهة.
كان صدام يدرك ان عليه ان يخفف من المصير المر للحرب، فشرع يوزع السيارات علي اسر الجنود الذين سقطوا في الحرب.
حصلت كل اسرة علي سيارة جديدة ومبلغ عشرة آلاف دينار، وهو ما كان يعادل آنذاك ثلاثين الف دولار اميركي. وكان نادرا ان تُسلَّم السيارة ويُدفع مبلغ التعويض بلا مشاكل. ففي حال اذا ما كان المتوفي متزوجا، فقد كانت اللوائح تنص علي ان زوجته هي المستحقة، وهو الامر الذي كان والدا المتوفي واخوته نادرا ما يقبلونه. كانت هذه الخلافات كثيرا ما ينجم عنها الضرب واطلاق النيران والقتل اذا ما استعانت ارملة المتوفي بوالدها واخوتها وابناء اخواتها ليساعدوها!
كذلك فقد واحد من الممرضين في مستشفي الواسطي ولده في جبهة القتال. ما زلت اراه امامي. كان منهارا تماما علي الارض من شدة الحزن بحيث لا يمكنك مواساته. لم يمر سوي اسبوعين الا وكان يقود سيارة تويوتا كورونا جديدة وقد لطّخ ابواب السيارة بالدماء، فقد ذبح خروفا وسكب دماءه علي السيارة ليدفع عنها الحسد. وها هو ذا الاب يضحك الآن ملء شدقيه!
في بادئ الامر كانت توزع سيارات تويوتا كورونا يابانية الصنع. وعندما ارتفع عدد الضحيا، انخفض مستوي السيارات الي السيارة فولكس فاغن باسات التي كانت تصنع في البرازيل وتستورد من هناك. كانت السيارات تأتي الي باب المنزل، غير ان معظم الارامل والاسر لم تكن تستطيع قيادة السيارات.
وبالرغم من ذلك فقد كانت السيارات تستخدم علي الفور، فتصاعد عدد الحوادث بشكل جنوني، وساهم عدد ضحيا حوادث المرور في ارتفاع تلال القتلي. وقد سمعت ان ذلك كان احد الاسباب التي جعلت صدام يوقف مشروع «سيارة في مقابل الابن» في وسط الحرب.
تم يضا استنفار ما عرف بالجيش الشعبي في بديات الحرب المبكرة. كانت هذه الميليشيا يسيطر عليها حزب البعث، وكانت قد اسست في عام 1970 لتتولي التدريب العسكري الاساسي لكوادر الحزب، فمثلت بذلك ثقلا مضادا للجيش النظامي في حال تدبير ضباطه لمحاولة انقلاب.
معاقبة رافض التجنيد
في خريف عام 1981 طُلب من اعضاء حزب البعث في جميع ارجاء العراق ان يكونوا قدوة لغيرهم وان يتطوعوا للخدمة العسكرية في الجيش الشعبي. سري هذا الامر يضا علي ممثلي الحزب البارزين، غير ان كثيرا منهم رفض تنفيذ الامر بدعوي انهم ليس بمقدورهم الذهاب الي الجبهة لاسباب مختلفة، صحية او شخصية علي حد سواء.
كان الدكتور هاشم جابر واحدا من هؤلاء. كان استاذا في طب الاسنان ورئيسا لجامعة بغداد، وكان يعاني منذ وقت طويل متاعب في الكلي وضغط الدم المرتفع. وكانت عيادته الخاصة تقع بجوار عيادة جراحة التجميل الخاصة بي، فكنا زملاء علي علاقة جيدة واصدقاء. وفي ديسمبر عام 1981 تلقي الخبر بان عليه ان يسجل اسمه للخدمة العسكرية في قاعة الخلد بجوار القصر الجمهوري مع اربعمائة وعشرين عضوا من اعضاء حزب البعث ذي النفوذ الكبير.
كان صدام رقيقا، وكان صوته حنونا عندما افتتح الاجتماع.
«في بادئ الامر اود ان ادعو كل هؤلاء الذين ليسوا في حالة صحية جيدة او الذين يشعرون بانهم منهكو القوي، او لديهم غير ذلك من الاعذار القهرية التي تمنعهم من الانضمام إلي صفوف الجيش الشعبي كغيرهم، ان يتفضلوا بالجلوس في هذه القاعة الي اليسار»، ذلك ما قاله صدام.
نفذ دكتور جابر ومعه مائتان وثلاثون من اعضاء حزب البعث ما طلب منهم. كان من بينهم عديد من نواب الوزراء واعضاء كثيرون في مجلس الشعب.
«هنا اعلن إقالتكم بلا سابق انذار. لا اريد ان اراكم مرة اخري في حزب البعث»، ذلك ما قاله صدام.
إلي الجبهة
وفي آخر الامر ارسل هؤلاء الاعضاء البالغ عددهم مائتين وثلاثين الي الجبهة.
كان من المقرر ان يعقد لقاء القمة لرؤساء حكومات دول عدم الانحياز في عام 1982 في بغداد. تكلفت الاستعدادات مبالغ طائلة، فقد امر صدام ببناء فندق جديد، وهو فندق الرشيد، للمشاركين في القمة من اكثر من مائة دولة. كما قام بشراء عدد كبير من السيارات المرسيدس الليموزين للتنقلات، وغير ذلك الكثير.
وبسبب الحرب والحالة الامنية غير المستقرة في بغداد، حيث كانت تتعرض المدينة بشكل مستمر للهجمات اليرانية بالقنابل والصواريخ، اجلت القمة لمدة عام آخر وتقرر انعقادها في العاصمة الهندية نيودلهي. فتفتق ذهن احد الخبثاء من معسكر الرئيس عن فكرة استخدام السيارات المرسيدس الفاخرة الجديدة كهديا للاكفاء من المهندسين والمعماريين والاطباء والمعلمين والكتاب والممثلين والنحاتين وغيرهم من ممثلي الثقافة لمكافأتهم علي ما اسدوه من خدمات فائقة لوطنهم في اثناء الحرب التي كانت لا تزال مستمرة.
مرسيدس مكافأة
طُلب مني ان اتوجه إلي أحد قصور صدام لاستلم مكافأتي المتحركة علي عجلات، وذلك ليس بوصفي فنانا، وانما بوصفي طبيبا بعد ان قابلنا صدام، وكنا خمسة وعشرين طبيبا من جميع انحاء العراق، لتكريمنا بسبب معالجتنا للجرحي. ادهشني ذلك بعض الشيء لان السكرتير الخاص بصدام، أرشد ياسين، كان في الاعوام السابقة كثيرا ما يتصل بي تلفونيا او يأتي إليَّ ليخبرني كيف ان الرئيس معجب بإنتاجي الفني الذي لفت انتباهه في برامج التحقيقات التلفزيونية، او في المقالات النقدية في الصحف والمجلات.
سارق آثار
كان ياسين طيارا ولواء في السلاح الجوي، وكان هو نفسه مهتما اهتماما كبيرا بالفن والتحف، لكن هذا الاهتمام لم يكن مجردا تماما من الاغراض الشخصية. كان قد عزل من منصبه كسكرتير شخصي لصدام عندما نُشرت في الجرائد مقالات فحواها ان العديد من التحف العراقية النادرة التي يبلغ عمرها آلاف السنين قد سرقت وهُرِّبت خارج البلاد وبيعت بالمليين في السوق السوداء الدولية للآثار. كان اسم اللواء قد ذُكر في هذه الفضيحة التي انكرها اللواء ارشد عدة مرات، ولكن لأنه كان متزوجا من اخت صدام، نوال، فقد قدر له ان يبقي علي قيد الحياة، بعد عزله عن منصبه.
كنا زهاء خمسة وعشرين طبيبا ممن أُمروا بالذهاب الي قصر الرئاسة ليتسلم كلٌّ منا واحدة من السيارات الباقية كمكافأة لنا علي خدماتنا في الحرب. كان ذلك بعدما تقرر عدم انعقاد قمة دول عدم الانحياز لعام 1982 في بغداد. وقد اكد صدام اهمية الدور الذي قمنا به «بالنسبة إلي الجنود والضباط في الجبهة، وبالنسبة إلي أسرهم التي كان عليهم ان يتركوها ليحاربوا العدو.
ان الرجال من امثالكم هم الذين سيخلدون في تاريخ العراق، وليس رجال الاعمال واصحاب الملايين الذين لا يعنيهم سوي التربح».
ثم سلم علي كلٍّ منا وصافحنا باليد، كما اخذت لنا صورة جماعية بجانبه. وعندما وصل إليّ، توقف بعض الوقت امام اسمي.
سألني: «هل أنت بالمصادفة الفنان علاء بشير»؟
«شيء لا يعقل»، قالها صدام عندما اجبته انه انا. «لا تنصرف بعد ذلك لكي يمكننا التحدث سويا».
لوحات وتماثيل
بعدما انصرف بقية الاطباء، اخذ صدام يثني علي لوحاتي وتماثيلي يما ثناء. لم يكن يعنيه في المقام الاول انني انا وزملائي في مستشفي الواسطي قد حققنا بعد اندلاع الحرب تقدما رائدا، وطورنا اساليب جديدة في مجال جراحة التجميل وجراحة اعادة التاهيل، وان ابحاثنا قد قُبلت ونشرت في الصحف العالمية البارزة.
«طالما قرأت ان اطباء في اوروبا كانوا في الوقت نفسه من مشاهير الكتاب والموسيقيين والمثّالين. وعلي ما يبدو فان لدينا الآن لأول مرة في تاريخ العراق جراحا فذا وفنانا عظيما في الوقت نفسه. انا سعيد وفخور ان يكون في بلادنا شخص مثلك». وبعد ذلك بثلاثة يام اتصل بي احد العاملين في مكتب صدام واخبرني اني قد صرت عضوا في فريق الاطباء الخاص بالرئيس.
25 طبيباً كانوا يهتمون بصدام.. ويدفع قيمة استشاراتهم حتي لا يكون مديناً لأحد
khalid- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 313
۞ تاريخ التسجيل : 26/10/2007
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى