كنت طبيبا لصدام الجزء الخامس
صفحة 1 من اصل 1
كنت طبيبا لصدام الجزء الخامس
التي تحركت بعد منتصف الليل بقليل لتنفيذ مهمتها الخطرة بالقرب من خطوط العدو في منطقة الأهوار.
شــرب.. الــدم
تمكنوا لفترة طويلة من الاختباء في القصب الكثيف، ولكن بعد عدة ساعات اكتُشف موقعهم وأطلقت عليهم النيران. كان هذا الجاويش أول من أصيب، وفقد الوعي علي أثر ذلك. وعندما أفاق، اكتشف أنه ليس بمقدوره تحريك ساقيه. وفي أثناء ذلك كان الصبح قد بزغ، وكان القارب المطاطي يرقد في القاع علي عمق نصف المتر. أما الأربعة الباقون الذين كانوا معه في القارب فقد طفت جثثهم في مياه الهور بين سيقان القصب الكثيف، وكان صديق عمره يبعد عنه بمقدار ذراع.
ارتفعت الشمس في كبد السماء وارتفعت معها درجة الحرارة. كانت درجة الحرارة علي الأقل خمسين درجة مئوية في الظل، إذا كان هناك ظل. نفد ماء الشرب الذي كان مع الجاويش. وكانت قربة المياه الخاصة بصديقه التي وصل إليها بعد عناء قد ثقبتها رصاصتان. كانت فارغة. إذا كان يريد النجاة فعليه أن يشرب من ماء الهور الذي كان قد اصطبغ باللون الأحمر، لون دماء صاحبه. في النهية أصبح لا يقدر علي تحمل العطش، ولم يعد يستطيع أن يسيطر علي نفسه. شرب، وكان يحاول في أثناء ذلك يائسا بما تبقي عنده من قدر يسير من القوة أن يدفع زميله، ودمه، بعيدا عنه.
«لم يجهزنا أحد لمثل هذا عندما أنهينا تدريبنا في القوات الخاصة»، ذلك ما قاله لي الجاويش. الزمن وحده أجبرنا علي شرب دماء أصدقائنا.
كان سلوك الجاويش حريا بالإعجاب في مجالات عديدة. كان قد تزوج قبيل الحرب ابنة عمه التي تبلغ من العمر ثمانية عشر ربيعا. كانت رائعة الجمال. ولم يكن لهما أولاد بعد. عندما جاء والده ليزوره، طلب الجاويش منه أن يطلب من زوجته رفع دعوي للطلاق.
«إذا لم تقم هي بذلك، فسأفعله أنا».
لم يكن هذا يعني أنه لم يعد يحبها، بل علي العكس، فقد كان يحلم طيلة الوقت بها. لكنه لم يكن يرغب في أن تزوره.
«لا يمكن أن أجعلها تخدمني طيلة حياتي. فلو فعلت ذلك، لكان جرما مني حقا».
كان مثل هذا التفكير غير مسبوق في المجتمع القبلي في وسط العراق الذي نشأ فيه هذا الجاويش، فما كان واحد من المرضي الآخرين الذين لقي الآلاف منهم المصير نفسه ليقول شيئا من هذا القبيل، إذ كانت مثل هذه الأفكار غريبة علي المجتمع القبلي التقليدي في وسط العراق. لقد كان شابا نبيلا وشهما واستثنائيا حقا!
صدام لم يكن يهمه عدد القتلي إنما دحر الأعداء
كان صدام يتطير بمجرد أن يشاهد شيئا يعتبره نذير شؤم.. فيعود
حرب بلا نصر
كان صدام يتوجه من حين لآخر إلي الجبهة، ولكن هذا لم يكن أبدا يعني أنه بالضرورة سيصل إلي هناك، فقد كان صدام ـ شأنه شأن أقاربه القريبين ـ متطيرا، فإذا ري قطة سوداء فجأة في الطريق فإن ذلك من شأنه أن يجعله يغير مسار موكب السيارات الخاص بـه ويأمـر بالعودة إلي بغداد. كانت حتي رؤية كيس بلاستيك يهفهف في وسط الشارع تُعد نذير شؤم بالنسبة لصدام، وتجعله يعود دون أن ينجز ما كان يعتزمه.
تبديل أمني
كان يبدل السيارة التي يستقلها باستمرار، فكان أحيانا يجلس في آخر سيارة، ثم يعود ليجلس في سيارة في منتصف الموكب. وكان يحدث أيضا أن تصطحبه طائرة مروحية من منتصف الطريق وتطير به إلي هدفه.
كان لا يقضي وقتا طويلا في مكان واحد في الجبهة. وقد حدث أن قُصف ذات ليلة مركزين للقيادة بالقنابل، كان صدام قد زارهما الواحد تلو الآخر. حدث ذلك فور مغادرة صدام، فإن الحذر الشديد والشك كانا حليفيه طيلة حياته.
كان صدام عادة ما يأخذ معه صباح مرزا في زياراته لبعض المواقع علي الجبهة. كان مرزا رئيس الحرس الشخصي لصدام، وكان علي سبيل التغيير يأخذ استراحة لبعض الوقت من واجبه في هذه الزيارات بأن يشارك في واحدة من فرق الإعدام التي كانت تطلق الرصاص علي الجنود الذين تجرأوا علي الانسحاب من تلقاء أنفسهم، أو علي الفرار إلي صفوف العدو.
كان صدام يزور من الحين الي الآخر المستشفيات العسكرية والجنود المصابين، لكنه لم يكن يهتم كثيرا بالأطباء الذين كانوا يصارعون ليلا ونهارا، وعاما بعد عام، من أجل حياة وأجساد ضحيا الحرب. كان ينظر إلي مهنة الطبيب باستعلاء، شأنه شأن إخوته الثلاثة وطبان وسبعاوي وبرزان.
عقدة من الأطباء
واعتقد أن الاستياء الذي كان الرئيس يشعر به تجاه الأطباء له ارتباط وثيق بما كان من بعض الأطباء الذين رفضوا مساعدة صدام بعد محاولته الفاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم في عام 1959، مما اضطره إلي أن يستخرج الرصاصة التي أصابته في بطن ساقه بنفسه بموسي حلاقة.
منافع شخصية
«إن الأطباء ينظرون دائما إلي مصلحتهم الشخصية، فهم في صراع دائم أيهم يمكنه أن يحقق أكبر قدر ممكن من الثراء»، ذلك ما قاله لي الرئيس في أحد الأحاديث الودية التي دارت بيننا في بدية تعارفنا.
«إنهم غير صادقين في معظم الأحيان»، قالها صدام مضيفا:«عندما يحاولون أن يصبحوا أصدقاءك، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم يأملون في منفعة شخصية. خاصة إذا كنت شخصا ذا نفوذ وسلطة فإنهم يستغلون صداقتك في التربح».
ذات يوم وصل صدام في الصباح المبكر إلي مستشفي الكرخ في بغداد. كان ذلك قبل تغيير نوبة الأطباء بربع ساعة، وطلب من الطبيب الذي يعمل في نوبة الليل أن يعطيه قائمة بأسماء الأطباء الذين سيحلون محله. تلقي جميع الأطباء الذين وصلوا متأخرين، حتي إذا كان هذا التأخير لمدة خمس دقائق فقط، الأمر بأنه لا يرغب في رؤيتهم في العام التالي في المستشفي. حدث ذلك الأمر لستة أو سبعة من زملائي.
كان لدي معظمهم عذر قهري منعهم من الوصول في موعدهم، فقد كان لديهم ما يقومون به في مستشفيات أخري في بغداد. كما كانت القائمة التي أعطاها طبيب الخدمة الليلية لصدام غير صحيحة. فكتبوا خطابا للرئيس وشرحوا فيه ما حدث من لبس، لكن من دون جدوي. هكذا كان الحال مع صدام، إذا اتخذ قرارا، فإنه لا يرجع فيه، ولا يعنيه إذا كان محقا أو مخطئا في هذا القرار.
أستاذ أم رئيس؟
ربما لن ينسي أحد الأطباء في مستشفي الكرخ هذا الصباح طيلة حياته. فقد تقدم نحو الرئيس ومعطفه غير مزرر وسماعته تتأرجح حول رقبته هنا وهناك. وإذا كان هناك شيء لا يتحمله صدام، فكان ذلك هو السلوك غير اللائق في حضوره. لكن حدث ما هو أسوأ من ذلك. فقد خاطب الطبيب الشاب الرئيس بلقب «أستاذ».
«هل خاطبتني بـ «أستاذ» أم بالرئيس»؟، سأله صدام مستنكرا.
«أنـا آسف يا سيدي الرئيس. فقد اعتقدت أنني استخدمت صيغة الخطاب المناسبة».
أخذ الطبيب الشاب في عصر ذلك اليوم، وألقي به في السجن لمدة ستة أشهر.
في منتصف الحرب التي استمرت ثمانية أعوام قتلت عروس يافعة في ليلة الزفاف في هجوم يراني بالقنابل علي مدينة مندلي في شرق العراق. كانت ساقاها وذراعاها مبتورة عندما عثر عليها هي والعريس الذي لقي حتفه أيضا.
شــرب.. الــدم
تمكنوا لفترة طويلة من الاختباء في القصب الكثيف، ولكن بعد عدة ساعات اكتُشف موقعهم وأطلقت عليهم النيران. كان هذا الجاويش أول من أصيب، وفقد الوعي علي أثر ذلك. وعندما أفاق، اكتشف أنه ليس بمقدوره تحريك ساقيه. وفي أثناء ذلك كان الصبح قد بزغ، وكان القارب المطاطي يرقد في القاع علي عمق نصف المتر. أما الأربعة الباقون الذين كانوا معه في القارب فقد طفت جثثهم في مياه الهور بين سيقان القصب الكثيف، وكان صديق عمره يبعد عنه بمقدار ذراع.
ارتفعت الشمس في كبد السماء وارتفعت معها درجة الحرارة. كانت درجة الحرارة علي الأقل خمسين درجة مئوية في الظل، إذا كان هناك ظل. نفد ماء الشرب الذي كان مع الجاويش. وكانت قربة المياه الخاصة بصديقه التي وصل إليها بعد عناء قد ثقبتها رصاصتان. كانت فارغة. إذا كان يريد النجاة فعليه أن يشرب من ماء الهور الذي كان قد اصطبغ باللون الأحمر، لون دماء صاحبه. في النهية أصبح لا يقدر علي تحمل العطش، ولم يعد يستطيع أن يسيطر علي نفسه. شرب، وكان يحاول في أثناء ذلك يائسا بما تبقي عنده من قدر يسير من القوة أن يدفع زميله، ودمه، بعيدا عنه.
«لم يجهزنا أحد لمثل هذا عندما أنهينا تدريبنا في القوات الخاصة»، ذلك ما قاله لي الجاويش. الزمن وحده أجبرنا علي شرب دماء أصدقائنا.
كان سلوك الجاويش حريا بالإعجاب في مجالات عديدة. كان قد تزوج قبيل الحرب ابنة عمه التي تبلغ من العمر ثمانية عشر ربيعا. كانت رائعة الجمال. ولم يكن لهما أولاد بعد. عندما جاء والده ليزوره، طلب الجاويش منه أن يطلب من زوجته رفع دعوي للطلاق.
«إذا لم تقم هي بذلك، فسأفعله أنا».
لم يكن هذا يعني أنه لم يعد يحبها، بل علي العكس، فقد كان يحلم طيلة الوقت بها. لكنه لم يكن يرغب في أن تزوره.
«لا يمكن أن أجعلها تخدمني طيلة حياتي. فلو فعلت ذلك، لكان جرما مني حقا».
كان مثل هذا التفكير غير مسبوق في المجتمع القبلي في وسط العراق الذي نشأ فيه هذا الجاويش، فما كان واحد من المرضي الآخرين الذين لقي الآلاف منهم المصير نفسه ليقول شيئا من هذا القبيل، إذ كانت مثل هذه الأفكار غريبة علي المجتمع القبلي التقليدي في وسط العراق. لقد كان شابا نبيلا وشهما واستثنائيا حقا!
صدام لم يكن يهمه عدد القتلي إنما دحر الأعداء
كان صدام يتطير بمجرد أن يشاهد شيئا يعتبره نذير شؤم.. فيعود
حرب بلا نصر
كان صدام يتوجه من حين لآخر إلي الجبهة، ولكن هذا لم يكن أبدا يعني أنه بالضرورة سيصل إلي هناك، فقد كان صدام ـ شأنه شأن أقاربه القريبين ـ متطيرا، فإذا ري قطة سوداء فجأة في الطريق فإن ذلك من شأنه أن يجعله يغير مسار موكب السيارات الخاص بـه ويأمـر بالعودة إلي بغداد. كانت حتي رؤية كيس بلاستيك يهفهف في وسط الشارع تُعد نذير شؤم بالنسبة لصدام، وتجعله يعود دون أن ينجز ما كان يعتزمه.
تبديل أمني
كان يبدل السيارة التي يستقلها باستمرار، فكان أحيانا يجلس في آخر سيارة، ثم يعود ليجلس في سيارة في منتصف الموكب. وكان يحدث أيضا أن تصطحبه طائرة مروحية من منتصف الطريق وتطير به إلي هدفه.
كان لا يقضي وقتا طويلا في مكان واحد في الجبهة. وقد حدث أن قُصف ذات ليلة مركزين للقيادة بالقنابل، كان صدام قد زارهما الواحد تلو الآخر. حدث ذلك فور مغادرة صدام، فإن الحذر الشديد والشك كانا حليفيه طيلة حياته.
كان صدام عادة ما يأخذ معه صباح مرزا في زياراته لبعض المواقع علي الجبهة. كان مرزا رئيس الحرس الشخصي لصدام، وكان علي سبيل التغيير يأخذ استراحة لبعض الوقت من واجبه في هذه الزيارات بأن يشارك في واحدة من فرق الإعدام التي كانت تطلق الرصاص علي الجنود الذين تجرأوا علي الانسحاب من تلقاء أنفسهم، أو علي الفرار إلي صفوف العدو.
كان صدام يزور من الحين الي الآخر المستشفيات العسكرية والجنود المصابين، لكنه لم يكن يهتم كثيرا بالأطباء الذين كانوا يصارعون ليلا ونهارا، وعاما بعد عام، من أجل حياة وأجساد ضحيا الحرب. كان ينظر إلي مهنة الطبيب باستعلاء، شأنه شأن إخوته الثلاثة وطبان وسبعاوي وبرزان.
عقدة من الأطباء
واعتقد أن الاستياء الذي كان الرئيس يشعر به تجاه الأطباء له ارتباط وثيق بما كان من بعض الأطباء الذين رفضوا مساعدة صدام بعد محاولته الفاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم في عام 1959، مما اضطره إلي أن يستخرج الرصاصة التي أصابته في بطن ساقه بنفسه بموسي حلاقة.
منافع شخصية
«إن الأطباء ينظرون دائما إلي مصلحتهم الشخصية، فهم في صراع دائم أيهم يمكنه أن يحقق أكبر قدر ممكن من الثراء»، ذلك ما قاله لي الرئيس في أحد الأحاديث الودية التي دارت بيننا في بدية تعارفنا.
«إنهم غير صادقين في معظم الأحيان»، قالها صدام مضيفا:«عندما يحاولون أن يصبحوا أصدقاءك، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم يأملون في منفعة شخصية. خاصة إذا كنت شخصا ذا نفوذ وسلطة فإنهم يستغلون صداقتك في التربح».
ذات يوم وصل صدام في الصباح المبكر إلي مستشفي الكرخ في بغداد. كان ذلك قبل تغيير نوبة الأطباء بربع ساعة، وطلب من الطبيب الذي يعمل في نوبة الليل أن يعطيه قائمة بأسماء الأطباء الذين سيحلون محله. تلقي جميع الأطباء الذين وصلوا متأخرين، حتي إذا كان هذا التأخير لمدة خمس دقائق فقط، الأمر بأنه لا يرغب في رؤيتهم في العام التالي في المستشفي. حدث ذلك الأمر لستة أو سبعة من زملائي.
كان لدي معظمهم عذر قهري منعهم من الوصول في موعدهم، فقد كان لديهم ما يقومون به في مستشفيات أخري في بغداد. كما كانت القائمة التي أعطاها طبيب الخدمة الليلية لصدام غير صحيحة. فكتبوا خطابا للرئيس وشرحوا فيه ما حدث من لبس، لكن من دون جدوي. هكذا كان الحال مع صدام، إذا اتخذ قرارا، فإنه لا يرجع فيه، ولا يعنيه إذا كان محقا أو مخطئا في هذا القرار.
أستاذ أم رئيس؟
ربما لن ينسي أحد الأطباء في مستشفي الكرخ هذا الصباح طيلة حياته. فقد تقدم نحو الرئيس ومعطفه غير مزرر وسماعته تتأرجح حول رقبته هنا وهناك. وإذا كان هناك شيء لا يتحمله صدام، فكان ذلك هو السلوك غير اللائق في حضوره. لكن حدث ما هو أسوأ من ذلك. فقد خاطب الطبيب الشاب الرئيس بلقب «أستاذ».
«هل خاطبتني بـ «أستاذ» أم بالرئيس»؟، سأله صدام مستنكرا.
«أنـا آسف يا سيدي الرئيس. فقد اعتقدت أنني استخدمت صيغة الخطاب المناسبة».
أخذ الطبيب الشاب في عصر ذلك اليوم، وألقي به في السجن لمدة ستة أشهر.
في منتصف الحرب التي استمرت ثمانية أعوام قتلت عروس يافعة في ليلة الزفاف في هجوم يراني بالقنابل علي مدينة مندلي في شرق العراق. كانت ساقاها وذراعاها مبتورة عندما عثر عليها هي والعريس الذي لقي حتفه أيضا.
khalid- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 313
۞ تاريخ التسجيل : 26/10/2007
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى