كنت طبيبا لصدام الجزء السادس
صفحة 1 من اصل 1
كنت طبيبا لصدام الجزء السادس
مسابقة المأساة
أقام صدام مسابقة، دعي فيها فنانو العراق للتعبير عن هذه المأساة، علي أن يكون التصوير تمثيليا تماما. كان عليهم أن يصوروا السيدة الشابة في ملابس الزفاف من دون ذراعين أو ساقين، حتي يمكن للأجيال القادمة في جميع العصور أن تعي دون صعوبة هذه الشهادة الفريدة علي وحشية اليرانيين.
كان يظهر كل ليلة في التلفزيون العراقي بعض الفنانين الذين كانوا يقدمون لصدام أعمالهم المشاركة في المسابقة، غير أن الرئيس لم يكن راضيا عن أي منها، وهو ما أظهره علي شاشة التلفزيون. لكنه اقتنع بعمل قدمه النحات سهيل الهنداوي.
في وقت المسابقة نفسه كنت أقيم معرضا فنيا جديدا في غاليري الرواق. كنت قد أطلقت علي إحدي اللوحات اسم «الشََّهَادة». كانت تظهر في اللوحة صحراء وسماء. كانت هناك قدمان مبتورتان عند الكاحلين تبرزان من الرمال. كان هناك نبات به بعض الأوراق ينمو بينهما. ورسمت أمام السماء يدين مبتورتين أيضا. كانت الأصابع بعيدة عن بعضها. عندما يتأمل المرء اللوحة، يبدو الأمر كما لو كان هناك إنسان يقف رافعا ذراعيه نحو السماء في الصحراء، لكنه بلا جسد.
صهره سارق آثار
زار المعرض اللواء أرشد ياسين الذي لم يكن قد تعرض بعد لمشاكل بسبب ولعه بالآثار العراقية القديمة، ولذلك كان لا يزال يحتفظ بمنصب السكرتير الخاص لصهره. ويبدو أن ما رآه هناك قد أعجبه أيما إعجاب، فقد اتصل بي بعد ذلك بيومين وطلب مني أن أحضر اللوحة إلي صدام الذي يود رؤيتي.
كان الرئيس لتوه في نقاش مع بعض اللواءات العائدين من الجبهة. اضطررت أن أنتظر لمدة ساعة في مكتب ياسين حتي جاء صدام. قال إنه يؤسفه أنني انتظرته، ثم وقف طويلا أمام «الشَّهَادة».
«إنه لعمل فني قوي ومعبر»، قال ذلك صدام مضيفا: «لقد تركت الجسم واحتفظت بما فقدته العروس الشابة».
أردت أن أعترض قائلا إنني لم أكن أستدعيها في ذهني عندما رسمت اللوحة قبل المسابقة بفترة طويلة، لكنه لم يتح لي فرصة لذلك.
قال صدام: «إنها واضحة تماما ولا تحتاج إلي توضيح منك».
طلبت بالرغم من ذلك أن يسمح لي بأن أقول شيئا عن الحرب والشهداء، وعندما أومأ، قلت إن هذا الذي ربما نراه، ليس بالضرورة مطابقا للواقع. وما يقوله الناس، ليس دائما حقيقيا.
«إن أهم شيء أن نفهم ما لا نراه أو لا نسمعه».
لم أجرؤ علي مواصلة محاولتي في أن أوضح لصدام أن المعلومات التي تلقاها من اللواءات والمقربين من أعوانه عن مجري الحرب ليس لها علاقة بالواقع الذي أراه كل يوم في المستشفي العسكري.
قلت: «إن الشهيد هو الذي يصمد من أجل شيء يؤمن به، وهو الذي يضحي من أجل الآخرين. لذلك يسمون عن الأرض إلي السماء».
صمت صدام. شعرت أنه لا ينصت إليّ.
هدف واحد
عندما أردت الذهاب، قال لي: «ليس لدينا الآن وقت في منتصف الحرب لأن نحصي قتلانا وجرحانا. يجب أن نركز علي هدف واحد لا غير، وهو أن ندحر الأعداء وأن نخرج منتصرين من المعركة. وعندما نصل إلي هذا الهدف ونحقق النصر، يكون بمقدورنا أن نحصي الخسائر التي تكبدناها ونرعي الجرحي بالأسلوب الأمثل».
ثم عاد مرة أخري إلي اللواءات.
عندما اصطحبني اللواء ياسين إلي الخارج، أسرع خلفي واحد من حرس صدام الشخصي ومعه علبة صغيرة. كانت هدية لي من الرئيس، ساعة يد رخيصة. كانت صورة صدام علي ميناء الساعة.
احتفظ لنفسه بـ «الشهادة».
لكن علي ما يبدو كان يتم إحصاء من سقطوا في الحرب.
جندي من دون أذن
في أثناء المعارك الضارية التي دارت في منطقة الحدود في أواخر عام 1983، وبديات عام 1984 بالقرب من المدينة اليرانية البسيتين، أحضر جندي إلي مستشفي الواسطي وأذنه اليسري مبتورة تماما. سألته كيف حدث هذا. أجاب أن الضباط والجنود في وحدته كانوا قد وقعوا في كمين، حيث حاصرهم العدو وحصد أرواحهم حصدا. وأضاف إنه قد تم إعدام كثير من الأسري العراقيين في تلك المعركة.
«حتي عنــدما كنـا نرفع أيدينا ونصيح بأننا نريد الاستسلام، كان اليرانيون لا يتوقفون عن القصف».
كان الظلام دامسا، فقد كان ذلك في الثالثة فجرا. تظاهر الجندي بأنه قد أصيب وزحف تحت اثنين من زملائه الموتي. في أعقاب ذلك بدأ الجنود اليرانيون في الانسحاب تحسبا لهجوم عراقي مضاد. غير أن أحدهم بقي، كان يسير بين الجثث وفي إحدي يديه مصباح جيب، وفي اليد الأخري مدية. كان قد علّق جرابا مفتوحا في حزامه.
«رأيته يسلط الضوء علي الجنود القتلي، واحدا وراء الآخر ويمثل بهم. كان يضع الأذن في الجراب الصغير».
أذن من كل جثة عراقية. هكذا كان يمكن أن يعبروا بالأرقام عن مدي نجاح الكمين الذي نصبوه.
«ثم قطع من كل جثة من جثتي الزميلين اللذين كنت قد اختبأت تحتهما أذنا. لم يلفت انتباهه أني ما زلت علي قيد الحياة عندما حان الدور عليّ، فقد كان الظلام دامسا في آخر الأمر، وعلي ما يبدو فإنه لم يكن لديه فسحة من الوقت».
استدعي واحد من أبناء أعمامي كمجند احتياط. كان عليه أن يؤدي الخدمة في مشرحة مستشفي الرشيد العسكري في بغداد، حيث كانوا يأتون بالقتلي من الضباط والجنود من الجبهة الممتدة التي تجري فيها الدماء أنهارا. كانوا يأتون بهم علي شاحنات: أجسام ممزقة، رؤوس مفصولة عن الأجساد، أذرع وسيقان كثيرة كومت بعضها فوق بعض.
كانت مهمة ابن عمي أن يتعرف علي الضحيا ويضع كل واحد في نعش خاص به، ثم يرسله إلي أسرته. لكن هذا لم يكن سهلا بالمرة. فأن تجد الرأس المناسب لكل جثة، ثم الأذرع والسيقان الخاصة بها، كان مثله مثل اللغز الصعب الذي عليك أن تحله وتجمع أجزاءه، وكل ذلك في وقت وجيز.
شحنات أخري
«كنا نبذل قصاري جهدنا قبل أن ندق المسامير في غطاء النعش. لكنه كثيرا ما كان يحدث أن نرسل ساقين يمنيين أو ذراعين يسريين إلي أسر الضحيا. كنا نعمل بلا انقطاع حتي تأتي الشحنة الأخري».
ذات يوم سألني عما إذا كان يمكنني عن طريق علاقاتي أن يحصل علي نقل في مكان آخر، بما فيها أسوأ الأماكن في الجبهة. لم يعد يتحمل أكثر من ذلك. نجحت في نقله إلي مكان آخر ليس علي هذه الدرجة من الكآبة في مستشفي عسكري آخر. لكنه لم يعد أبدا كما كان قبل الحرب، كما أصيب بمشاكل نفسية عصيبة بعد نهية الحرب.
كانت النعوش تغطي بالأعلام العراقية، عندما كان يتم نقل الشهداء الذين سقطوا في الحرب إلي مدافنهم. كان هذا مشهدا يوميا في بغداد والبصرة والناصرية وكربلاء والكوت والحلة وسامراء
وتكريت والموصل وجميع القري والمدن في العراق. فلا يكاد يخلو حي من الأحياء من خيمة العزاء التي أقامها الأقارب حتي يتسني للقريب والبعيد من الأهل والجيران والأصدقاء أن يقدموا العزاء ويقرأوا الفاتحة للمتوفي. في جميع الشوارع تقريبا كانت تعلق الأشرطة السوداء علي جدران المنازل، وقد كتب عليها اسم الأبناء القتلي باللون الأبيض.
.. ومر الصاروخ
في ذات يوم كنت أستقل سيارتي أنا وزوجتي وابنتي الصغيرة في بغداد. كنا نسير خلف سيارتين تحمل كل منهما نعشا فوقها. نظرت ابنتي إليهما ثم قالت إنها تتمني أن تموت هي الأخري.
«لم أعد أتحمل أن أري ذلك كل يوم»، ذلك ما قالته.
أخذت زوجتي تبكي.
«كيف لها أن تفكر بهذه الطريقة؟ إنها لم تتجاوز السادسة بعد».
في هذه اللحظة مر صاروخ يراني من فوق رؤوسنا. سقط قريبا للغية من فندق الرشيد وانفجر. تأرجحت سيارتنا من شدة الضغط الجوي. لقد كتب الله تعالي لنا النجاة.
في شهر ميو من عام 1985 جاء لي فريق من التلفزيون العراقي ليجري معي حوارا حول أعمالي كفنان وحول الإنجازات العظيمة التي أحرزناها في مجال الجراحة في مستشفي الواسطي والتي استخدمناها في علاج الآلاف المؤلفة من الضباط والجنود المصابين إصابات خطيرة الذين كانوا يأتوننا من الجبهة. كانت السيدة التي ستجري معي الحوار من أفضل المذيعات في العراق، وأكثرهن شهرة. تم التصوير في الأتيليه الخاص بي. كنت قد انتهيت لتوي من لوحة رجل يحاول أن يمنع طائرا كبيرا من أن ينقره في وجهه. كان يمسك بالطائر من جناحيه فوق رأسه. كانت الألوان المستخدمة في اللوحة هي اللون الأحمر واللون الأسود.
سألتني المذيعة: «ماذا يفعل هذا الطائر الجارح»؟
أجبت إن الفكرة هنا تمثل صراع الإنسان مع القدر.
«يتضح من اللوحة أن القدر هو الذي سينتصر. فالرجل لن يتمكن من أن يظل رافعا ذراعيه لأعلي لفترة طويلة».
«فهو إذن الخاسر»؟، ذلك ما سألتني ياه.
«نعم. إنه ينهزم عندما يموت. لكن الحياة تسير وتتقدم. هذا ما يعطي الحياة معناها».
«لكن لا مجال للادعاء بأنك لا تعبأ بالحياة»؟
«في الواقع يوجد دائما قَدْر من المرارة، شئنا أم أبينا». قلت لها ذلك، مذكرا ياها بالملاكم الأميركي الشهير محمد علي الذي سئل ذات مرة عما إذا كان لا يزال يعد نفسه الأسرع والأقوي في هذا العالم.
أجاب بطل الوزن الثقيل: «لقد اكتشفت أن الزمن أكثر قوة وسرعة وبقاء».
وأضفت من جانبي أنه بمقدور الوقت فقط أن يعلمنا حقائق الحياة أو علي الأقل جزءا منها.
«ما دمنا شبابا وأقوياء وأغنياء وذوي نفوذ، فإننا ننسي كم نحن ضعفاء، وعندنا قابلية لأن نُجرح. هذه هي مأساة البشرية».
طلبت المذيعة من المصور أن يصور عديدا من اللوحات الأخري المعلقة علي حوائط الأتيليه. كان هناك كثير منها، فبعد فترة وجيزة كنت سأقيم معرضا جديدا.
«إن الناس الذين تحدثت إليهم يجدون لوحاتك تبعث علي الكآبة».
«إن واجبي ليس إضحاك الناس أو نقل مشاعر السعادة للناس بأن أخفي عنهم حقيقة الحياة».
«هل تقرأ الشعر؟ هل يمكنك أن تلقي شيئا علينا»؟، كان ذلك هو سؤالها التالي.
أجبت أني أحمل بداخلي دائما بيتا للشاعر العراقي العظيم المتنبي الذي توفي منذ كذا ألف عام.
خطأ المذيعة
ثم ارتكبت المذيعة خطأ ولكنها لم تدركه إلا فيما بعد.
«أنت جراح تجميل وتقوم دائما بعمليات زرع شعر. لماذا لم تزرع لنفسك شعرا فأنت لم يعد لديك كثير من الشعر»؟
«لم يشكل هذا الأمر مطلقا مشكلة بالنسبة لي. بصراحة أنا لا أفكر في هذا الأمر مطلقا».
«لكن ألا تري نفسك كل يوم في المرآة»؟
«بلي، لكن فقط للحلاقة، وليس لأتأمل نفسي بإعجاب، إذا كان ذلك ما تقصدين».
في اليوم التالي اتصل بي سكرتير الرئيس. «لقد أعجب سيادته بالحوار، ويود أن يراك بشدة». في الحجرة المؤدية إلي حجرة صدام عرفت أنه قد شاهد البرنامج من أوله لآخره، وهو ما يحدث نادرا.
«لكنه ثار ثورة عارمة عندما سألتك المذيعة عن زراعة الشعر وعن ضعف نمو شعرك».
علمت بعد ذلك أن صدام أمر بمعاقبة المذيعة.
لم يسمح لها بالظهور علي الشاشة لمدة ستة أشهر.
أقام صدام مسابقة، دعي فيها فنانو العراق للتعبير عن هذه المأساة، علي أن يكون التصوير تمثيليا تماما. كان عليهم أن يصوروا السيدة الشابة في ملابس الزفاف من دون ذراعين أو ساقين، حتي يمكن للأجيال القادمة في جميع العصور أن تعي دون صعوبة هذه الشهادة الفريدة علي وحشية اليرانيين.
كان يظهر كل ليلة في التلفزيون العراقي بعض الفنانين الذين كانوا يقدمون لصدام أعمالهم المشاركة في المسابقة، غير أن الرئيس لم يكن راضيا عن أي منها، وهو ما أظهره علي شاشة التلفزيون. لكنه اقتنع بعمل قدمه النحات سهيل الهنداوي.
في وقت المسابقة نفسه كنت أقيم معرضا فنيا جديدا في غاليري الرواق. كنت قد أطلقت علي إحدي اللوحات اسم «الشََّهَادة». كانت تظهر في اللوحة صحراء وسماء. كانت هناك قدمان مبتورتان عند الكاحلين تبرزان من الرمال. كان هناك نبات به بعض الأوراق ينمو بينهما. ورسمت أمام السماء يدين مبتورتين أيضا. كانت الأصابع بعيدة عن بعضها. عندما يتأمل المرء اللوحة، يبدو الأمر كما لو كان هناك إنسان يقف رافعا ذراعيه نحو السماء في الصحراء، لكنه بلا جسد.
صهره سارق آثار
زار المعرض اللواء أرشد ياسين الذي لم يكن قد تعرض بعد لمشاكل بسبب ولعه بالآثار العراقية القديمة، ولذلك كان لا يزال يحتفظ بمنصب السكرتير الخاص لصهره. ويبدو أن ما رآه هناك قد أعجبه أيما إعجاب، فقد اتصل بي بعد ذلك بيومين وطلب مني أن أحضر اللوحة إلي صدام الذي يود رؤيتي.
كان الرئيس لتوه في نقاش مع بعض اللواءات العائدين من الجبهة. اضطررت أن أنتظر لمدة ساعة في مكتب ياسين حتي جاء صدام. قال إنه يؤسفه أنني انتظرته، ثم وقف طويلا أمام «الشَّهَادة».
«إنه لعمل فني قوي ومعبر»، قال ذلك صدام مضيفا: «لقد تركت الجسم واحتفظت بما فقدته العروس الشابة».
أردت أن أعترض قائلا إنني لم أكن أستدعيها في ذهني عندما رسمت اللوحة قبل المسابقة بفترة طويلة، لكنه لم يتح لي فرصة لذلك.
قال صدام: «إنها واضحة تماما ولا تحتاج إلي توضيح منك».
طلبت بالرغم من ذلك أن يسمح لي بأن أقول شيئا عن الحرب والشهداء، وعندما أومأ، قلت إن هذا الذي ربما نراه، ليس بالضرورة مطابقا للواقع. وما يقوله الناس، ليس دائما حقيقيا.
«إن أهم شيء أن نفهم ما لا نراه أو لا نسمعه».
لم أجرؤ علي مواصلة محاولتي في أن أوضح لصدام أن المعلومات التي تلقاها من اللواءات والمقربين من أعوانه عن مجري الحرب ليس لها علاقة بالواقع الذي أراه كل يوم في المستشفي العسكري.
قلت: «إن الشهيد هو الذي يصمد من أجل شيء يؤمن به، وهو الذي يضحي من أجل الآخرين. لذلك يسمون عن الأرض إلي السماء».
صمت صدام. شعرت أنه لا ينصت إليّ.
هدف واحد
عندما أردت الذهاب، قال لي: «ليس لدينا الآن وقت في منتصف الحرب لأن نحصي قتلانا وجرحانا. يجب أن نركز علي هدف واحد لا غير، وهو أن ندحر الأعداء وأن نخرج منتصرين من المعركة. وعندما نصل إلي هذا الهدف ونحقق النصر، يكون بمقدورنا أن نحصي الخسائر التي تكبدناها ونرعي الجرحي بالأسلوب الأمثل».
ثم عاد مرة أخري إلي اللواءات.
عندما اصطحبني اللواء ياسين إلي الخارج، أسرع خلفي واحد من حرس صدام الشخصي ومعه علبة صغيرة. كانت هدية لي من الرئيس، ساعة يد رخيصة. كانت صورة صدام علي ميناء الساعة.
احتفظ لنفسه بـ «الشهادة».
لكن علي ما يبدو كان يتم إحصاء من سقطوا في الحرب.
جندي من دون أذن
في أثناء المعارك الضارية التي دارت في منطقة الحدود في أواخر عام 1983، وبديات عام 1984 بالقرب من المدينة اليرانية البسيتين، أحضر جندي إلي مستشفي الواسطي وأذنه اليسري مبتورة تماما. سألته كيف حدث هذا. أجاب أن الضباط والجنود في وحدته كانوا قد وقعوا في كمين، حيث حاصرهم العدو وحصد أرواحهم حصدا. وأضاف إنه قد تم إعدام كثير من الأسري العراقيين في تلك المعركة.
«حتي عنــدما كنـا نرفع أيدينا ونصيح بأننا نريد الاستسلام، كان اليرانيون لا يتوقفون عن القصف».
كان الظلام دامسا، فقد كان ذلك في الثالثة فجرا. تظاهر الجندي بأنه قد أصيب وزحف تحت اثنين من زملائه الموتي. في أعقاب ذلك بدأ الجنود اليرانيون في الانسحاب تحسبا لهجوم عراقي مضاد. غير أن أحدهم بقي، كان يسير بين الجثث وفي إحدي يديه مصباح جيب، وفي اليد الأخري مدية. كان قد علّق جرابا مفتوحا في حزامه.
«رأيته يسلط الضوء علي الجنود القتلي، واحدا وراء الآخر ويمثل بهم. كان يضع الأذن في الجراب الصغير».
أذن من كل جثة عراقية. هكذا كان يمكن أن يعبروا بالأرقام عن مدي نجاح الكمين الذي نصبوه.
«ثم قطع من كل جثة من جثتي الزميلين اللذين كنت قد اختبأت تحتهما أذنا. لم يلفت انتباهه أني ما زلت علي قيد الحياة عندما حان الدور عليّ، فقد كان الظلام دامسا في آخر الأمر، وعلي ما يبدو فإنه لم يكن لديه فسحة من الوقت».
استدعي واحد من أبناء أعمامي كمجند احتياط. كان عليه أن يؤدي الخدمة في مشرحة مستشفي الرشيد العسكري في بغداد، حيث كانوا يأتون بالقتلي من الضباط والجنود من الجبهة الممتدة التي تجري فيها الدماء أنهارا. كانوا يأتون بهم علي شاحنات: أجسام ممزقة، رؤوس مفصولة عن الأجساد، أذرع وسيقان كثيرة كومت بعضها فوق بعض.
كانت مهمة ابن عمي أن يتعرف علي الضحيا ويضع كل واحد في نعش خاص به، ثم يرسله إلي أسرته. لكن هذا لم يكن سهلا بالمرة. فأن تجد الرأس المناسب لكل جثة، ثم الأذرع والسيقان الخاصة بها، كان مثله مثل اللغز الصعب الذي عليك أن تحله وتجمع أجزاءه، وكل ذلك في وقت وجيز.
شحنات أخري
«كنا نبذل قصاري جهدنا قبل أن ندق المسامير في غطاء النعش. لكنه كثيرا ما كان يحدث أن نرسل ساقين يمنيين أو ذراعين يسريين إلي أسر الضحيا. كنا نعمل بلا انقطاع حتي تأتي الشحنة الأخري».
ذات يوم سألني عما إذا كان يمكنني عن طريق علاقاتي أن يحصل علي نقل في مكان آخر، بما فيها أسوأ الأماكن في الجبهة. لم يعد يتحمل أكثر من ذلك. نجحت في نقله إلي مكان آخر ليس علي هذه الدرجة من الكآبة في مستشفي عسكري آخر. لكنه لم يعد أبدا كما كان قبل الحرب، كما أصيب بمشاكل نفسية عصيبة بعد نهية الحرب.
كانت النعوش تغطي بالأعلام العراقية، عندما كان يتم نقل الشهداء الذين سقطوا في الحرب إلي مدافنهم. كان هذا مشهدا يوميا في بغداد والبصرة والناصرية وكربلاء والكوت والحلة وسامراء
وتكريت والموصل وجميع القري والمدن في العراق. فلا يكاد يخلو حي من الأحياء من خيمة العزاء التي أقامها الأقارب حتي يتسني للقريب والبعيد من الأهل والجيران والأصدقاء أن يقدموا العزاء ويقرأوا الفاتحة للمتوفي. في جميع الشوارع تقريبا كانت تعلق الأشرطة السوداء علي جدران المنازل، وقد كتب عليها اسم الأبناء القتلي باللون الأبيض.
.. ومر الصاروخ
في ذات يوم كنت أستقل سيارتي أنا وزوجتي وابنتي الصغيرة في بغداد. كنا نسير خلف سيارتين تحمل كل منهما نعشا فوقها. نظرت ابنتي إليهما ثم قالت إنها تتمني أن تموت هي الأخري.
«لم أعد أتحمل أن أري ذلك كل يوم»، ذلك ما قالته.
أخذت زوجتي تبكي.
«كيف لها أن تفكر بهذه الطريقة؟ إنها لم تتجاوز السادسة بعد».
في هذه اللحظة مر صاروخ يراني من فوق رؤوسنا. سقط قريبا للغية من فندق الرشيد وانفجر. تأرجحت سيارتنا من شدة الضغط الجوي. لقد كتب الله تعالي لنا النجاة.
في شهر ميو من عام 1985 جاء لي فريق من التلفزيون العراقي ليجري معي حوارا حول أعمالي كفنان وحول الإنجازات العظيمة التي أحرزناها في مجال الجراحة في مستشفي الواسطي والتي استخدمناها في علاج الآلاف المؤلفة من الضباط والجنود المصابين إصابات خطيرة الذين كانوا يأتوننا من الجبهة. كانت السيدة التي ستجري معي الحوار من أفضل المذيعات في العراق، وأكثرهن شهرة. تم التصوير في الأتيليه الخاص بي. كنت قد انتهيت لتوي من لوحة رجل يحاول أن يمنع طائرا كبيرا من أن ينقره في وجهه. كان يمسك بالطائر من جناحيه فوق رأسه. كانت الألوان المستخدمة في اللوحة هي اللون الأحمر واللون الأسود.
سألتني المذيعة: «ماذا يفعل هذا الطائر الجارح»؟
أجبت إن الفكرة هنا تمثل صراع الإنسان مع القدر.
«يتضح من اللوحة أن القدر هو الذي سينتصر. فالرجل لن يتمكن من أن يظل رافعا ذراعيه لأعلي لفترة طويلة».
«فهو إذن الخاسر»؟، ذلك ما سألتني ياه.
«نعم. إنه ينهزم عندما يموت. لكن الحياة تسير وتتقدم. هذا ما يعطي الحياة معناها».
«لكن لا مجال للادعاء بأنك لا تعبأ بالحياة»؟
«في الواقع يوجد دائما قَدْر من المرارة، شئنا أم أبينا». قلت لها ذلك، مذكرا ياها بالملاكم الأميركي الشهير محمد علي الذي سئل ذات مرة عما إذا كان لا يزال يعد نفسه الأسرع والأقوي في هذا العالم.
أجاب بطل الوزن الثقيل: «لقد اكتشفت أن الزمن أكثر قوة وسرعة وبقاء».
وأضفت من جانبي أنه بمقدور الوقت فقط أن يعلمنا حقائق الحياة أو علي الأقل جزءا منها.
«ما دمنا شبابا وأقوياء وأغنياء وذوي نفوذ، فإننا ننسي كم نحن ضعفاء، وعندنا قابلية لأن نُجرح. هذه هي مأساة البشرية».
طلبت المذيعة من المصور أن يصور عديدا من اللوحات الأخري المعلقة علي حوائط الأتيليه. كان هناك كثير منها، فبعد فترة وجيزة كنت سأقيم معرضا جديدا.
«إن الناس الذين تحدثت إليهم يجدون لوحاتك تبعث علي الكآبة».
«إن واجبي ليس إضحاك الناس أو نقل مشاعر السعادة للناس بأن أخفي عنهم حقيقة الحياة».
«هل تقرأ الشعر؟ هل يمكنك أن تلقي شيئا علينا»؟، كان ذلك هو سؤالها التالي.
أجبت أني أحمل بداخلي دائما بيتا للشاعر العراقي العظيم المتنبي الذي توفي منذ كذا ألف عام.
خطأ المذيعة
ثم ارتكبت المذيعة خطأ ولكنها لم تدركه إلا فيما بعد.
«أنت جراح تجميل وتقوم دائما بعمليات زرع شعر. لماذا لم تزرع لنفسك شعرا فأنت لم يعد لديك كثير من الشعر»؟
«لم يشكل هذا الأمر مطلقا مشكلة بالنسبة لي. بصراحة أنا لا أفكر في هذا الأمر مطلقا».
«لكن ألا تري نفسك كل يوم في المرآة»؟
«بلي، لكن فقط للحلاقة، وليس لأتأمل نفسي بإعجاب، إذا كان ذلك ما تقصدين».
في اليوم التالي اتصل بي سكرتير الرئيس. «لقد أعجب سيادته بالحوار، ويود أن يراك بشدة». في الحجرة المؤدية إلي حجرة صدام عرفت أنه قد شاهد البرنامج من أوله لآخره، وهو ما يحدث نادرا.
«لكنه ثار ثورة عارمة عندما سألتك المذيعة عن زراعة الشعر وعن ضعف نمو شعرك».
علمت بعد ذلك أن صدام أمر بمعاقبة المذيعة.
لم يسمح لها بالظهور علي الشاشة لمدة ستة أشهر.
khalid- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 313
۞ تاريخ التسجيل : 26/10/2007
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى