كنت طبيبا لصدام الجزء الثامن
صفحة 1 من اصل 1
كنت طبيبا لصدام الجزء الثامن
استفحال الرشاوى
لم يعد في مقدور موظفي الدولة أن ينفقوا على أنفسهم وعلى عائلاتهم مما يدفع لهم شهريا، فكان أن بدأوا في طلب الرشاوى لأداء ما لديهم من أعمال، ومنها إنجاز الطلبات. لم يعد هناك مكتب من المكاتب، أو إدارة من الإدارات، أو وزارة من الوزارات إلا واستفحل الفساد فيها، وعلى كل المستويات.
بدأ الأمر أول ما بدأ مع الضباط ذوي الرتب العالية الذين تلقى كثير منهم في أثناء الحرب رشاوى محترمة لكي ينقلوا الجنود من قطاعات الجبهة إلى أماكن أقل دموية، بل إن بعضهم استطاع أن يبني منازل ومزارع مما حصلوا عليه من رشاوى في مقابل نقل وحدات كاملة من الجيش. اهتز ما كان لدى الشعب من تقدير كبير للجيش العراقي في الماضي اهتزازا عنيفا منذ أن انقض صدام على نظام الخميني الإسلامي في الشرق.
.. وانتشار الدعارة
بالنسبة إلى عائلات كثيرة كانت الدعارة هي السبيل الوحيد عندما لم يعد هناك ما يكفي من المال، وعندما كان هناك هذا العدد الهائل من الأفواه التي يجب أن تُطعم، بعدما سقط الأخ أو الأب ليختفي بذلك عائلهم.
مع الفقر زادت أيضا معدلات السرقات وغيرها من الجرائم.
غير أن الميراث المأساوي للحرب كان يكمن في هذا العدد الكبير من المعاقين. ما يقرب من 150 ألفا من العراقيين قضوا نحبهم في الأعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب وجُرح 750 ألفا، كثير جدا منهم تعرض لإصابات وعاهات مستديمة، سواء الجسدية منها أو النفسية.
لم يكن العراق على أدني استعداد لرعايتهم. كان مستشفى ابن القف هو المستشفى الوحيد المتخصص، وكان قد شيد بمساعدات دانمركية في أثناء الحرب لإعادة تأهيل مصابي الحرب شديدي الإعاقة. لم تكن طاقته الاستيعابية كافية بأي شكل من الأشكال. كان الآباء والزوجات المنهكون يُحضرون أبناءهم المعاقين بعد منتصف الليل خاصة ليضعوهم في جنح الظلام في حديقة المستشفي حيث كان العاملون به يجدونهم في الصباح. ومع ذلك لم يكن من المتاح تقديم العون لهم، ناهيك عن أن الأطباء وفنيي العلاج الطبيعي الدانمركيين كانوا خائري القوي من العمل الكثير.
أما إمكانات العلاج بالنسبة لعشرات الآلاف من الجنود الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية نشأت من جراء الخوف الذي تعرضوا له في ساحة القتال فكانت أسوأ كثيرا، حيث لم يكن هناك ببساطة أيٌ من الإمكانات لمعالجتهم. وليس من المألوف في العراق كمـا هي الحـال في الشـرق الأوسـط الحديث عن المشكلات النفسية من أساسه، كما ينظر إلى المرضى الذين يخضعون للعلاج النفسي نظرة دونية، حيث تحـاول العائلات مـا أمكن لها ذلك أن تخفـي ما تعتبره في داخلها عارا ليس دونه عار.
وقتها كان يوجد في كل مدينة، في كل قرية، وفي كل حي تقريبا شباب يعانون من مشاكل نفسية مستعصية. كان يحز في نفسي كطبيب أن أشاهد ذلك دون أن أفعل شيئا.
أشك في أن يكون أي من الحاضرين لاحتفال كمال حنا في العرس الذي أخذ يتزايد صخبا على صخب مهتما بما عليه العراق من حالة سيئة.
اخجلوا
غير أنه عندما ظهر عدي بصحبة عصا المشي الخاصة به المصنوعة من العاج ساد المكان صمت القبور. أخذت الطلقات، والموسيقي، والرقص في التوقف من فورها. يبدو أن حنا كان قد شرب كميات كبيرة من الويسكي حتى أنه اضطُر الى الاستناد الى غيره حتى يستطيع مواجهة زائره. حسبما يتذكر جابر فإن عدي كان قد افتتح النقاش متوعدا.
«اخجلوا من أنفسكم»، قالها عدي مضيفا: «رجوتكم عبر الحرس الخاص أن تهدأوا قليلا. لكنكم لم تعيروا الأمر اهتماما. تاه حظك، لتنزل عليك كل مصائب الدنيا! أدب سيس (من التركية، تعني دون أدب) يا لك من خصي معدوم الخلق»!
«إنه حفلي الخاص»، أجابه حنا مضيفا: «إنك تدس أنفك في كل شيء. أخرج نفسك منها هذه الليلة»!
رفع عدي العصا المصنوعة من العاج عاليا.
«يا كلب. كيف تجرؤ على مجرد التفكير في الحديث معي بهذا الشكل»؟
وعاجل عدي حنا بضربة على رأسه ليخر الخادم الخاص على الأرض.
«سأحكي ذلك لوالدي»، قالها عدي قبل أن يغادر هو وجابر، والحارسان الخاصان الحفل بعد أن توقف صخب الحفل!
لقد قتلته
اعتقد الأربعة أن كمال حنا سقط لأنه أفرط في الشراب وأن الضيوف الآخرين سيساعدونه على النهوض.
اتصل صدام بابنه مع أول خيوط الفجر. كان عدي مندهشا، فقد كان من غير المعتاد على الإطلاق أن يقيم الرئيس اتصالا مباشرا معه على هذا النحو. بدأ يروي لوالده عن كامل حنا وعن أحداث الليلة، غير أن صداما لم يمهله الفرصة للحديث.
«لقد قتلته»، قالها صدام في برود شديد مضيفا: «ستبلغ الشرطة الآن عن الحادث لتلقي الجزاء الذي تستحقه».
عندما نُقل خبر قتل كمال حنا على يد عدي إلى الرئيس خرج صدام عن شعوره تماما.
«سأقتله بيدي هاتين»، خرج صوت صدام راعدا في حضرة زوجته ساجدة. كان قد نُقل إليها خبر ما حدث، فما كان منها إلا أن غادرت دار الضيافة التي كانت تقضي فيها ليلتها مع قرينة الرئيس المصري متوجهة إلى البيت على عجل.
أفزعت ثورة الغضب العارمة التي انتابت صدام والدة عدي، التي اتصلت في يأس بصهرها برزان وروت له ما هدد به صدام. «لا بد أن تأتي حالا وتهدئه».
شعر رأسه.. واقف
عندما ظهر الأخ غير الشقيق في قصر الرئيس كان صدام لا يزال في ثورة غضبه، ولا يمكن التحدث إليه. في ذات مرة أسرّ برزان إليّ بأن العائلة كانت تستطيع أن تري متى كان الرئيس غاضبا حقا، فإنه حين يغضب كان شعر رأسه يقف مثل القنفذ، كما هي الحال الآن.
فيما بعد أخبرني برزان بالآتي: «لو كان عدي بالمقربة منه لكان قد قتله بلا شك. لم أره أبدا غاضبا وخارجا عن شعوره بمثل هذه الدرجة».
شيئا فشيئا أخذ الرئيس يهدأ، وكان في مقدور برزان أن يتحدث معه.
«الآن دعنا نفكر في الأمر في هدوء شديد. إذا قتلت ابنك، فإن هذا لن يعيد كامل حنا إلى الحياة، ولن نجني وقتها سوى الخسارة، خسارة مزدوجة سواء في حجمها أو في تأثيرها. من الأفضل تقديم عدي للمحاكمة، وعلى القضاء تقرير مصيره».
قال صدام: «سأقدمه للمحاكمة».
محاولة انتحار
أصابت عدي صدمة عندما تكشف له ما جنت يداه. تناول أنبوبا من حبوب منومة، وابتلع كل ما فيه.
عندما بدأت الحبوب تأتي مفعولها، وسقط عدي على الأرض نقله حرسه الخاص إلى مستشفي ابن سينا. كان هذا المستشفي الصغير في الأصل عيادة خاصة، تم تحديثها وتوسعتها بعد الانقلاب واستيلاء حزب البعث على الحكم. كان في المستشفي عشرون سريرا وغرفتان للعمليات، كما كان حسب المعايير الغربية مجهزا تجهيزا لا بأس به بالأجهزة الطبية الفنية. كان الأطباء والممرضات الأكفاء يعملون تحت رقابة أمنية. عادة ما كان يقوم جراح وطبيب باطني بالاشتراك مع عشر ممرضات بالخدمة ليل نهار.
كان زحام المرضي يتصاعد باستمرار. لم يكن عدد الذين يزورون هذا المستشفي الصغير الراقي قليلا بأي حال من الأحوال، إذا ما انضم لحسبتنا كل الزوجات، والأطفال، والأقارب والخليلات للنخبة العراقية.
أفرغت معدة عدي باستخدام الشفاط في الوقت المناسب.
لم أكن في مجموعة الخدمة عندما نُقل الابن الأكبر للرئيس إلى مستشفي ابن سينا، غير أن زملائي حكوا لي بعدها ببضعة أيام أنه حاول الانتحار، لكنهم أنقذوه. أما صديقه جابر فقد روى لي تفصيليا فيما بعد ماذا وقع من أحداث قبل، وأثناء، وبعد الحادث المؤسف في حفل كامل حنا.
تسليم نفسه
ظل عدي طوال الليل تحت الملاحظة في مستشفي ابن سينا، ليعود بعدها إلى دار الضيافة التي كان يقيم بها. أعطى حرسه الخاص والخدم إجازة وتحصن بأجولة الرمل في التراس أمام الباب. عندما أتى بعض من حرس صدام الخاص ليأخذوه أطلق عدي النار من مدفع كلاشنيكوف على سياراتهم. عادوا أدراجهم وأخبروا الرئيس أن الحالة النفسية لابنه لا تزال مقلقة.
تُرك عدي حتي اليوم الذي يليه على حاله. بعدها أتت والدته وأخوه الأصغر قصي ليعيدوه إلى صوابه. أتيا بمفردهما، بلا حرس، واستغرق الأمر زمنا غير قصير إلى أن استطاعوا إقناعه بتسليم نفسه.
لم يقبض لا على عدي ولا على جابر على الفور. أراد صدام أن يعرف كل شيء عن هــذه المأســاة الشائكة قبــل أن يُشرك الهيئات القضائيـة في الأمر. كان هناك قدر لا بأس به من الاشاعات تلف العراق والتي كان يتلقفها خصوم عدي في نهم. كان أعضاء الأسرة تدور بينهم باستمرار معارك حول المناصب المهمة والوجيهة، إذا استثنينا منصب الرئيس نفسه.
مؤامرات حسين كامل:
كان زوج ابنة صدام، أي حسين كامل، من أكثر الضالعين في المؤامرات. كان حسين كامل ابن أخت علي حسن المجيد، أحد أبناء عمومة صدام، يشغل منصبا مهما هو وزير الصناعة والتصنيع العسكري، وكان مسؤولا عن برامج تطوير الأسلحة للعراق. كان حظيّ صدام، وكان زواجه من ابنة الرئيس رغد هو دليل دامغ على ذلك.
الأيام الطويلة:
حظي أيضا أخوه صدام كامل بثقة كبيرة. زوجه صدام من رنا أخت رغد، كما كان واحدا من أخلص حرسه الخاص. وقد لعب الدور الرئيسي لصدام في «الأيام الطويلة»، وهو فيلم مدته ست ساعات عن حياة الرئيس، والذي كان يُعرض مرارا في التلفزيون العراقي وفي دور السينما في البلاد لسنوات كثيرة. أخرج هذا الفيلم المخرج الإنكليزي تيرينس يانغ الذي كان قبلها مخرجا لثلاثة من أفلام جيمس بوند، إلى أن دخل التاريخ مجددا في بغداد.
استقبل الإخوة الثلاثة غير الأشقاء، سبعاوي، وبرزان، ووطبان زواج الشقيقين من ابنتي الرئيس بالرفض التام والانزعاج. أثار تزويج صدام لابنته رغد بحسين كامل تحديدا البغضاء في الأسرة. كل الإخوة غير الأشقاء كانوا يرون أن ابن سبعاوي ياسر هو الوحيد الأصلح لها، حيث كان سيعني هذا الزواج أيضا توطيد روابط الدم بين فرع عائلتهم وفرع عائلة الرئيس، وهو الأمر الذي رفضه صدام.
كان في هذا إشارة واضحة إلى برزان.
مخبرون في كل مكان:
في عام 1980 أصبح برزان الأخ الأوسط من بين الإخوة غير الأشقاء رئيسا للمخابرات، حيث تولي مهمته بجدية شديدة. تم توسيع عمليات هذه الهيئة، وشبكة المخبرين سواء في خارج البلاد أو في العراق توسيعا كبيرا. ولم يكن عندهم فرق بين الخصوم العراقيين لصدام المشتبه فيهم، وبين الحقيقيين منهم.
كثيرا ما كان برزان يتفاخر أمامي بأن جهاز المخابرات في ظل قيادته كان له عملاء ومخبرون في كل أنحاء العالم وأنه لم يكن أبدا في يوم من الأيام بمثل هذه الفعالية.
«لا يوجد حتى عراقي واحد يجلس في حانة في أي قرية مهجورة في اليابان ويتحدث بسوء عن صدام ونظامه يمكنه أن يتوهم لنفسه الأمان»، هكذا كان رأيه.
في المدارس الشعبية كان المدرسون يسألون تلاميذهم عما إذا كان آباؤهم قد أداروا جهاز التليفزيون عندما كان يُعرض برنامج عن الرئيس. فإذا أجاب أحدهم بالنفي كان يمكن أن ينتهي الأمر بالأب إلى التحقيق والمساءلة.
لم يعد في مقدور موظفي الدولة أن ينفقوا على أنفسهم وعلى عائلاتهم مما يدفع لهم شهريا، فكان أن بدأوا في طلب الرشاوى لأداء ما لديهم من أعمال، ومنها إنجاز الطلبات. لم يعد هناك مكتب من المكاتب، أو إدارة من الإدارات، أو وزارة من الوزارات إلا واستفحل الفساد فيها، وعلى كل المستويات.
بدأ الأمر أول ما بدأ مع الضباط ذوي الرتب العالية الذين تلقى كثير منهم في أثناء الحرب رشاوى محترمة لكي ينقلوا الجنود من قطاعات الجبهة إلى أماكن أقل دموية، بل إن بعضهم استطاع أن يبني منازل ومزارع مما حصلوا عليه من رشاوى في مقابل نقل وحدات كاملة من الجيش. اهتز ما كان لدى الشعب من تقدير كبير للجيش العراقي في الماضي اهتزازا عنيفا منذ أن انقض صدام على نظام الخميني الإسلامي في الشرق.
.. وانتشار الدعارة
بالنسبة إلى عائلات كثيرة كانت الدعارة هي السبيل الوحيد عندما لم يعد هناك ما يكفي من المال، وعندما كان هناك هذا العدد الهائل من الأفواه التي يجب أن تُطعم، بعدما سقط الأخ أو الأب ليختفي بذلك عائلهم.
مع الفقر زادت أيضا معدلات السرقات وغيرها من الجرائم.
غير أن الميراث المأساوي للحرب كان يكمن في هذا العدد الكبير من المعاقين. ما يقرب من 150 ألفا من العراقيين قضوا نحبهم في الأعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب وجُرح 750 ألفا، كثير جدا منهم تعرض لإصابات وعاهات مستديمة، سواء الجسدية منها أو النفسية.
لم يكن العراق على أدني استعداد لرعايتهم. كان مستشفى ابن القف هو المستشفى الوحيد المتخصص، وكان قد شيد بمساعدات دانمركية في أثناء الحرب لإعادة تأهيل مصابي الحرب شديدي الإعاقة. لم تكن طاقته الاستيعابية كافية بأي شكل من الأشكال. كان الآباء والزوجات المنهكون يُحضرون أبناءهم المعاقين بعد منتصف الليل خاصة ليضعوهم في جنح الظلام في حديقة المستشفي حيث كان العاملون به يجدونهم في الصباح. ومع ذلك لم يكن من المتاح تقديم العون لهم، ناهيك عن أن الأطباء وفنيي العلاج الطبيعي الدانمركيين كانوا خائري القوي من العمل الكثير.
أما إمكانات العلاج بالنسبة لعشرات الآلاف من الجنود الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية نشأت من جراء الخوف الذي تعرضوا له في ساحة القتال فكانت أسوأ كثيرا، حيث لم يكن هناك ببساطة أيٌ من الإمكانات لمعالجتهم. وليس من المألوف في العراق كمـا هي الحـال في الشـرق الأوسـط الحديث عن المشكلات النفسية من أساسه، كما ينظر إلى المرضى الذين يخضعون للعلاج النفسي نظرة دونية، حيث تحـاول العائلات مـا أمكن لها ذلك أن تخفـي ما تعتبره في داخلها عارا ليس دونه عار.
وقتها كان يوجد في كل مدينة، في كل قرية، وفي كل حي تقريبا شباب يعانون من مشاكل نفسية مستعصية. كان يحز في نفسي كطبيب أن أشاهد ذلك دون أن أفعل شيئا.
أشك في أن يكون أي من الحاضرين لاحتفال كمال حنا في العرس الذي أخذ يتزايد صخبا على صخب مهتما بما عليه العراق من حالة سيئة.
اخجلوا
غير أنه عندما ظهر عدي بصحبة عصا المشي الخاصة به المصنوعة من العاج ساد المكان صمت القبور. أخذت الطلقات، والموسيقي، والرقص في التوقف من فورها. يبدو أن حنا كان قد شرب كميات كبيرة من الويسكي حتى أنه اضطُر الى الاستناد الى غيره حتى يستطيع مواجهة زائره. حسبما يتذكر جابر فإن عدي كان قد افتتح النقاش متوعدا.
«اخجلوا من أنفسكم»، قالها عدي مضيفا: «رجوتكم عبر الحرس الخاص أن تهدأوا قليلا. لكنكم لم تعيروا الأمر اهتماما. تاه حظك، لتنزل عليك كل مصائب الدنيا! أدب سيس (من التركية، تعني دون أدب) يا لك من خصي معدوم الخلق»!
«إنه حفلي الخاص»، أجابه حنا مضيفا: «إنك تدس أنفك في كل شيء. أخرج نفسك منها هذه الليلة»!
رفع عدي العصا المصنوعة من العاج عاليا.
«يا كلب. كيف تجرؤ على مجرد التفكير في الحديث معي بهذا الشكل»؟
وعاجل عدي حنا بضربة على رأسه ليخر الخادم الخاص على الأرض.
«سأحكي ذلك لوالدي»، قالها عدي قبل أن يغادر هو وجابر، والحارسان الخاصان الحفل بعد أن توقف صخب الحفل!
لقد قتلته
اعتقد الأربعة أن كمال حنا سقط لأنه أفرط في الشراب وأن الضيوف الآخرين سيساعدونه على النهوض.
اتصل صدام بابنه مع أول خيوط الفجر. كان عدي مندهشا، فقد كان من غير المعتاد على الإطلاق أن يقيم الرئيس اتصالا مباشرا معه على هذا النحو. بدأ يروي لوالده عن كامل حنا وعن أحداث الليلة، غير أن صداما لم يمهله الفرصة للحديث.
«لقد قتلته»، قالها صدام في برود شديد مضيفا: «ستبلغ الشرطة الآن عن الحادث لتلقي الجزاء الذي تستحقه».
عندما نُقل خبر قتل كمال حنا على يد عدي إلى الرئيس خرج صدام عن شعوره تماما.
«سأقتله بيدي هاتين»، خرج صوت صدام راعدا في حضرة زوجته ساجدة. كان قد نُقل إليها خبر ما حدث، فما كان منها إلا أن غادرت دار الضيافة التي كانت تقضي فيها ليلتها مع قرينة الرئيس المصري متوجهة إلى البيت على عجل.
أفزعت ثورة الغضب العارمة التي انتابت صدام والدة عدي، التي اتصلت في يأس بصهرها برزان وروت له ما هدد به صدام. «لا بد أن تأتي حالا وتهدئه».
شعر رأسه.. واقف
عندما ظهر الأخ غير الشقيق في قصر الرئيس كان صدام لا يزال في ثورة غضبه، ولا يمكن التحدث إليه. في ذات مرة أسرّ برزان إليّ بأن العائلة كانت تستطيع أن تري متى كان الرئيس غاضبا حقا، فإنه حين يغضب كان شعر رأسه يقف مثل القنفذ، كما هي الحال الآن.
فيما بعد أخبرني برزان بالآتي: «لو كان عدي بالمقربة منه لكان قد قتله بلا شك. لم أره أبدا غاضبا وخارجا عن شعوره بمثل هذه الدرجة».
شيئا فشيئا أخذ الرئيس يهدأ، وكان في مقدور برزان أن يتحدث معه.
«الآن دعنا نفكر في الأمر في هدوء شديد. إذا قتلت ابنك، فإن هذا لن يعيد كامل حنا إلى الحياة، ولن نجني وقتها سوى الخسارة، خسارة مزدوجة سواء في حجمها أو في تأثيرها. من الأفضل تقديم عدي للمحاكمة، وعلى القضاء تقرير مصيره».
قال صدام: «سأقدمه للمحاكمة».
محاولة انتحار
أصابت عدي صدمة عندما تكشف له ما جنت يداه. تناول أنبوبا من حبوب منومة، وابتلع كل ما فيه.
عندما بدأت الحبوب تأتي مفعولها، وسقط عدي على الأرض نقله حرسه الخاص إلى مستشفي ابن سينا. كان هذا المستشفي الصغير في الأصل عيادة خاصة، تم تحديثها وتوسعتها بعد الانقلاب واستيلاء حزب البعث على الحكم. كان في المستشفي عشرون سريرا وغرفتان للعمليات، كما كان حسب المعايير الغربية مجهزا تجهيزا لا بأس به بالأجهزة الطبية الفنية. كان الأطباء والممرضات الأكفاء يعملون تحت رقابة أمنية. عادة ما كان يقوم جراح وطبيب باطني بالاشتراك مع عشر ممرضات بالخدمة ليل نهار.
كان زحام المرضي يتصاعد باستمرار. لم يكن عدد الذين يزورون هذا المستشفي الصغير الراقي قليلا بأي حال من الأحوال، إذا ما انضم لحسبتنا كل الزوجات، والأطفال، والأقارب والخليلات للنخبة العراقية.
أفرغت معدة عدي باستخدام الشفاط في الوقت المناسب.
لم أكن في مجموعة الخدمة عندما نُقل الابن الأكبر للرئيس إلى مستشفي ابن سينا، غير أن زملائي حكوا لي بعدها ببضعة أيام أنه حاول الانتحار، لكنهم أنقذوه. أما صديقه جابر فقد روى لي تفصيليا فيما بعد ماذا وقع من أحداث قبل، وأثناء، وبعد الحادث المؤسف في حفل كامل حنا.
تسليم نفسه
ظل عدي طوال الليل تحت الملاحظة في مستشفي ابن سينا، ليعود بعدها إلى دار الضيافة التي كان يقيم بها. أعطى حرسه الخاص والخدم إجازة وتحصن بأجولة الرمل في التراس أمام الباب. عندما أتى بعض من حرس صدام الخاص ليأخذوه أطلق عدي النار من مدفع كلاشنيكوف على سياراتهم. عادوا أدراجهم وأخبروا الرئيس أن الحالة النفسية لابنه لا تزال مقلقة.
تُرك عدي حتي اليوم الذي يليه على حاله. بعدها أتت والدته وأخوه الأصغر قصي ليعيدوه إلى صوابه. أتيا بمفردهما، بلا حرس، واستغرق الأمر زمنا غير قصير إلى أن استطاعوا إقناعه بتسليم نفسه.
لم يقبض لا على عدي ولا على جابر على الفور. أراد صدام أن يعرف كل شيء عن هــذه المأســاة الشائكة قبــل أن يُشرك الهيئات القضائيـة في الأمر. كان هناك قدر لا بأس به من الاشاعات تلف العراق والتي كان يتلقفها خصوم عدي في نهم. كان أعضاء الأسرة تدور بينهم باستمرار معارك حول المناصب المهمة والوجيهة، إذا استثنينا منصب الرئيس نفسه.
مؤامرات حسين كامل:
كان زوج ابنة صدام، أي حسين كامل، من أكثر الضالعين في المؤامرات. كان حسين كامل ابن أخت علي حسن المجيد، أحد أبناء عمومة صدام، يشغل منصبا مهما هو وزير الصناعة والتصنيع العسكري، وكان مسؤولا عن برامج تطوير الأسلحة للعراق. كان حظيّ صدام، وكان زواجه من ابنة الرئيس رغد هو دليل دامغ على ذلك.
الأيام الطويلة:
حظي أيضا أخوه صدام كامل بثقة كبيرة. زوجه صدام من رنا أخت رغد، كما كان واحدا من أخلص حرسه الخاص. وقد لعب الدور الرئيسي لصدام في «الأيام الطويلة»، وهو فيلم مدته ست ساعات عن حياة الرئيس، والذي كان يُعرض مرارا في التلفزيون العراقي وفي دور السينما في البلاد لسنوات كثيرة. أخرج هذا الفيلم المخرج الإنكليزي تيرينس يانغ الذي كان قبلها مخرجا لثلاثة من أفلام جيمس بوند، إلى أن دخل التاريخ مجددا في بغداد.
استقبل الإخوة الثلاثة غير الأشقاء، سبعاوي، وبرزان، ووطبان زواج الشقيقين من ابنتي الرئيس بالرفض التام والانزعاج. أثار تزويج صدام لابنته رغد بحسين كامل تحديدا البغضاء في الأسرة. كل الإخوة غير الأشقاء كانوا يرون أن ابن سبعاوي ياسر هو الوحيد الأصلح لها، حيث كان سيعني هذا الزواج أيضا توطيد روابط الدم بين فرع عائلتهم وفرع عائلة الرئيس، وهو الأمر الذي رفضه صدام.
كان في هذا إشارة واضحة إلى برزان.
مخبرون في كل مكان:
في عام 1980 أصبح برزان الأخ الأوسط من بين الإخوة غير الأشقاء رئيسا للمخابرات، حيث تولي مهمته بجدية شديدة. تم توسيع عمليات هذه الهيئة، وشبكة المخبرين سواء في خارج البلاد أو في العراق توسيعا كبيرا. ولم يكن عندهم فرق بين الخصوم العراقيين لصدام المشتبه فيهم، وبين الحقيقيين منهم.
كثيرا ما كان برزان يتفاخر أمامي بأن جهاز المخابرات في ظل قيادته كان له عملاء ومخبرون في كل أنحاء العالم وأنه لم يكن أبدا في يوم من الأيام بمثل هذه الفعالية.
«لا يوجد حتى عراقي واحد يجلس في حانة في أي قرية مهجورة في اليابان ويتحدث بسوء عن صدام ونظامه يمكنه أن يتوهم لنفسه الأمان»، هكذا كان رأيه.
في المدارس الشعبية كان المدرسون يسألون تلاميذهم عما إذا كان آباؤهم قد أداروا جهاز التليفزيون عندما كان يُعرض برنامج عن الرئيس. فإذا أجاب أحدهم بالنفي كان يمكن أن ينتهي الأمر بالأب إلى التحقيق والمساءلة.
khalid- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 313
۞ تاريخ التسجيل : 26/10/2007
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى