كنت طبيبا لصدام الجزء الرابع عشر
صفحة 1 من اصل 1
كنت طبيبا لصدام الجزء الرابع عشر
خنصر صدام:
في يوم السابع من مارس، والحرب الأهلية على أشدها، أقلني في الضحى اثنان من حرس صدام الخاص لأتفقد حالة خنصر الرئيس.
في بادئ الأمر أقلاني إلى منزل صغير على مقربة من الجسر المعلق فوق نهر دجلة الذي حطمته القنابل، حيث كان ينتظر هناك اثنان آخران من الحرس الخاص، وتوجها بي إلى قصر الرئيس في الرضوانية. أما الجسر المدمر الذي يمر فوق الطريق السريع للسيارات والمؤدي إلى المطار الدولي فقد تم إصلاحه بعد الحادث المؤسف الذي تسبب فيه سائق سيارة النقل في العام السابق له.
في صالة الانتظار بالقصر كان عليَّ الانتظار بعض الوقت سويا مع عبد حمود، سكرتير الرئيس، وأصغر أبنائه قصي. ظهر صدام علينا مرتديا معطفا حربيا أسود اللون. صافح صدام ابنه وعانقه بطريقة تنم عن أنه لم يره منذ فترة طويلة.
بعدها تحول صدام إليّ.
«كيف حالك، يا طبيب، يا عظيم»؟
أجبته: «بخير»، لألقي بعدها نظرة متفحصة على خنصره الذي كان في أثناء ذلك قد شُفي شفاء كاملا.
«ما تعليق العراقيين على الأحداث»؟
«آسف يا ريس، لكنني لم أتحدث مع ما يكفي من العراقيين حتى أستطيع الإجابة عن هذا السؤال إجابة شافية».
ما هي الصورة؟
لم يُسَلِّم الرئيس بالأمر، وقال لي: «إذن احكِ لي على الأقل عما يقوله هؤلاء القليلون الذين تحدثت معهم».
«ينتابني الشعور بأن ما لقيه الجيش العراقي من مصير ومهانة يخلفان لديه المرارة. ولكنني إذا ما سألت عن غير ذلك من الأمور فإنني عادة ما يساورني الشك في أن ما يقال لي هو الحقيقة فعلا».
قبل أن يقلني الحارسان الشخصيان كنت قد تحدثت مع كبار الأطباء، وكبار الممرضات في مستشفي الواسطي. أردت أن أعرف ما تبدو عليه الصورة في مختلف الأقسام. هل كان في مقدورنا الاعتناء بكل المصابين الذين نُقلوا إلينا تباعا بشكل مُرضٍ؟ بطبيعة الحال كان كل شيء على أتم وجه، فقد كان هناك ما يكفي من الأدوية ومن بقية التجهيزات، كما لم يكن هناك نقص في الأفراد العاملين.
واصلت حكاياتي قائلا: «لكنني عندما قمت بنفسي في أعقاب ذلك بجولة تفتيشية اتضح لي أن ثمانين في المائة مما أخبروني به لم يكن صحيحا».
ابتسم الرئيس، مضيفا: «أو ربما أكثر من ذلك بكثير».
واصلت حديثي قائلا: «إن انعدام الصراحة مشكلة كبيرة في عموم الإدارة. لو أنني كنت قد صدقت ما قاله لي العاملون من معلومات لكان قد غُرر بي، ولوقعت أخطاء فيما أقوم به من خطط قائمة على هذه المعلومات. وكما قلتُ من قليل يا ريس، فإننا يجب أن نتنبه إلى أفعال الناس، وليس أقوالهم».
صمت الرئيس على إثر ذلك.
المجيد الخبير بالقتل:
نقل صدام الى ابن عمه علي حسن المجيد المسؤولية الرئيسية لقمع انتفاضة الشيعة. كان المجيــــد قد تــــولى قيادة القوات التي زحفت على الكويت. ربما كان ما قام به من قتل لا هوادة فيه في شمال العراق هو الأمر الذي رشحه في نظر صدام لمهمته الجديدة في جنوب العراق.
في مارس من عام 1987، أي بُعيْد الحرب ضد إيران، تولى ابن العم علي حسن المجيد ذو الستة والأربعين عاما التفويض الكامل بقمع حرب العصابات الدائرة لتحرير المناطق الكردية في الشمال بقيادة مسعود برزاني وجلال طالباني.
مجزرة الأنفال
لا توجد أرقام مؤكدة، ولكن بعد عامين ونصف العام كان علي حسن المجيد قد أمسك بما يقرب من 50 ألفا إلى 100 ألف من الذكور الأكراد ما بين الخامسة عشرة والخمسين عاما، وصفّاهم جسديا. أُحرقت ما يقرب من ألفي قرية، وسويت بالأرض. شُرد مئات الآلاف من البشر، كما دُمرت جميع خطوط الكهرباء، والمدارس، والآبار، والمساجد في هذه المناطق.
في أثناء إحدى العمليات التي حملت الاسم الحركي «الأنفال» لم يتورع ابن العم عن استعمال الغاز السام، ففي يوم السادس عشر من مارس من عام 1988، دخل المجيد التاريخ من أوسع أبوابه، حينما قصفت الطائرات العراقية قرية حلبجة الكردية بخليط من غاز الأعصاب وغاز الخردل. كانت النتيجة أن فقد ما يقرب من 3200 إلى5000 شخص حياتهم.
بهذه المناسبة حصل علي حسن المجيد أيضا على اسم الشهرة «علي الكيماوي».
كثير من أقارب صدام، وأقرب معاونيه كان لديهم الرغبة في المشاركة في قمع التمرد في جنوب العراق، فقد كان من مقتضى الحال أن يثبتوا للرئيس أن علي حسن المجيد ليس وحده من يمتلك من العنف والقوة ما هو مطلوب لتلقين الشيعة درسا لن ينسوه سريعا.
كان كلا زوجي الابنتين، حسين، وصدام كامل، وابنه قصي، وسكرتير الرئيس عبد حمود، ونائب الرئيس طه ياسين رمضان، وعزت إبراهيم الدوري، نائب الرئيس لأعلى جهاز حكومي، أي مجلس قيادة الثورة، قد أعلنوا على الرحب والسعة عن خدماتهم عندما تأكد أن الولايات المتحدة، ولا أي بلد آخر سيتدخل في الحرب الأهلية الدائرة.
عدي لا يريد قتل الشيعة:
كان عدي هو الوحيد الذي رفض المشاركة. روي لي صديقه وسكرتيره الخاص أن قصي حاول جاهدا أن يقنع أخيه.
«لا بد أن تقود أنت أيضا إحدى الوحدات»!
أجاب عدي: «لا، ليس عندي الرغبة في اغتيال الشيعة».
بــدا صدام لي في ضحى هذا اليوم من أيام شهر مارس ــ والحرب الأهلية على أشدها ــ في قصره في الرضوانية هادئا، ومسترخيا. بعدما فحصت خنصره، بادرني بالقول: «ما رأيك في الذي حدث»؟ فوجئت بهذا الاستفسار. وقلت أرجو أن تسمحوا لي بجمع عددي الطبية ومن ثم أجيبكم، وفي الحقيقة كنت أريد أن أحظى ببضع دقائق لأستجمع فيها أفكاري قبل الإجابة. قلت «لو أنكم دخلتم إلى غرفة ووجدتم فيها قتيلين بالرصاص وصف أحدهما بأنه شهيد والآخر بكونه خائنا. فكيف يمكنكم معرفة صفة أي منهما»؟ قال: «طبعا لا أعرف». فاسترسلت قائلا: «مظاهر الأشياء لا تدلل على جوهرها، وإن كلام الناس هو المظهر وليس جوهر الحقيقة. والواقع أن مسؤولي الدولة اعتمدوا على كلام الناس في تقييم الحقائق والبشر، في حين أن العمل هو المقياس الحقيقي. لذلك فان ما جرى هو نتيجة هذا الخلط».
دعوة للتمشي
حملق صدام في وجهي طويلا، وشعرت أنه كان يحاول أن يسبر غور أفكاري بعد الذي قلته. وبعد برهة من الوقت استفسر صدام عما إذا كنت في عجالة من أمري. فإذا لم يكن الأمر كذلك فإنني مدعو لأرافقه في التمشي في الحديقة ليناقشني في أمر من الأمور.
كانت الأمطار قد هطلت طوال الصباح، غير أن الشمس أطلت بعد ذلك بأشعتها من بين السحب. أمام البوابة الرئيسية للقصر كان هناك جدار جديد من الطوب قد تم بناؤه.
قال الرئيس: «من شأن هذا الجدار أن يشتت صواريخهم المبرمجة من قبل من طراز كروز».
من وقت إلى آخر كان علىنا تجنب نُقَر كبيرة من الماء موجودة على الطريق. تبعنا قصي وعبد حمود بمسافة قدرها ثلاثون مترا تقريبا.
قال صدام: «كان علي أن أفكر في شيء ما في الأيام الثلاثة الأخيرة. إن عرب المستنقعات (الاهوار) ليسوا عربا بمعنى الكلمة».
كان ما يقرب من نصف المليون من عرب المستنقعات يعيشون في مناطق المستنقعات المغطاة بالبردي التي لا مثيل لها في تاريخ الطبيعة والواقعة شمال البصرة، حيث يلتقي نهرا الفرات ودجلة. ولكن في نهاية الثمانينات اتضح أن هذه المجموعة السكانية كان يزحف علىها مستقبل مجهول للغاية.
كان من المخطط تجفيف المنطقة بأكملها، ومعها المستنقعات. بدأ العمل بالفعل في هذا المشروع الذي كان سيرغم غالبية عرب المستنقعات الذين يعيشون هناك منذ مئات السنين على ترك أكواخهم المصنوعة من البردي وقُرَاهم.
يتسبب كل من أسلوب الري، وزراعة الحبوب والخضراوات تحت شمس الشرق الأوسط الحارقة بتبخر كميات هائلة من الماء، وبتصاعد الأملاح الموجودة في التربة إلى سطحها. تؤدي ظاهرة البزل إلى غسل الرواسب الملحية في اتجاه الأنهار، حيث ينتهي بها المطاف في الظروف الطبيعية من النهر إلى البحر. غير أن المستنقعات في العراق كانت كإسفنجة كبيرة تحول بين الاثنين، وتمنع الماء القادم من مناطق الزراعة الرئيسية في داخل البلاد من الوصول إلى الخليج العربي. منذ عام 1948 نصح الباحثون الإنكليز بفعل شيء تجاه ذلك الأمر، ومنه تحويل مسار كلا النهرين العظيمين الواهبين للحياة من حول المستنقعات إلى البحر، وإلا فإن العاقبة ستكون تصاعدا مستمرا في محتوى الملح في نهري الفرات ودجلة تصل إلى مستوى الكارثة.
التخلص من الأهوار
بالطبع، كانت هناك أيضا أسباب سياسية لموافقة صدام على مشروع الصرف الشامل لهذه المحميـــة الطبيعية البالـغة مساحتها بين 15 إلى 20 ألف كيلومتر مربع؛ فلم يكــن عنده مانع من أن يضرب عصفورين بحجر ليتخلص نهائيا من عرب المستنقعات.
فقد كانوا بالنسبة إليه منذ زمن بعيد كالغصة في الحلق.
قال صدام: «منذ ألف ومائتين وخمسين عاما أتوا بثيرانهم السوداء من الهند لأن العباسيين كانوا في حاجة إلى أيدٍ عاملة. ولكن منذ ذلك الوقت لم يطوروا من أنفسهم. هم ليسوا مثل غيرهم من العراقيين، فهم بلا أخلاق».
في أثناء الحرب ضد إيران فر كثير من جنود الجيش العراقي ليختبئوا - بالذات - في هذه المستنقعات المليئة بالبردي والقصب الطويل والمستعصي عادة على الاختراق، حيث وجد كثير منهم العون من أهالي المنطقة التي لجأوا إلىها بحثا عن الملاذ.
لم يغب هذا أيضا عن الرئيس. في أثناء ذلك أُعلن أيضا أن عرب المستنقعات ضالعون في التمرد.
«لقد شجعوا التمرد، فهم لا يشعرون بالانتماء إلى وطننا»!
قالها بلا مواربة، لكنني شعرت أنه كان يبحث عن تفسير للتمرد المعترم في الجنوب، وعن كبش فداء.
«لا يمكن الوثوق بعرب المستنقعات هؤلاء. إنهم يكذبون، ويسرقون، وليست عندهم نخوة. إنهم ليسوا مثلنا. كما أن نساءهم يتسمن بالإباحية المطلقة وبانعدام الأخلاق. إن حياتهن غير محترمة».
توقفنا عند غدير صغير في الحديقة. أضاءت أشعة الشمس الرئيس من الخلف. لم يكن يعد أحدنا إلا بمسافة نصف المتر أو ما دونها. أثارت أذناه إعجابي فجأة حتى أنني لم أعد أسمع ماذا كان يقول. كانت شحمتا أذنيه شفافتين بفعل ضوء الشمس، كما لو كانتا مصنوعتين من شمع رمادي اللون، وكما لو كانت الدماء لم تعد تجري فيهما مطلقا. لم أستطع أن أمنع نفسي من تأمل جفنيه عن كثب. كانا ثقيلين، مرتخيين، وقد غطيا رموشه تقريبا. لكن عينيه لا تزالان تحملقان وتشعان بريقا من عدم الثقة والتوجس.
عرب.. أمة عظيمة
بعدما انتهى موضوع «عرب المستنقعات الغدارين والخونة» بدأ الرئيس في طريق العودة إلى القصر في إلقاء محاضرة عن مدى تقديرنا العظيم لأنفسنا كعراقيين لكوننا عربا من ناحية، ولتمسكنا بالدين الإسلامي من ناحية أخرى.
قال لي: «لأننا عرب، فنحن أمة عظيمة، زاد من عظمتها كثيرا أنها بُنيت على الإسلام».
بعد ذلك أراد الرئيس أن يعرف لماذا سميتُ ابني الأكبر سومر.
سألني: «لماذا بالذات هذا الاسم»؟
أجبته بقولي: «لأقرنه بمهد الحضارات، مملكة السومريين». لا أستطيع إلى الآن تخيل أن أجدادنا الأوائل منذ خمسة أو ستة آلاف عام قد بدأوا بالفعل في الكتابة، وفي زراعة الأرض، وفي بناء المدن وسن القوانين واحترامها.
لا أحد يعرف كم من الناس قُتلوا أو اعتُقلوا حينما سُحِق بشكل كامل التمرد العفوي للشيعة في غضون أسابيع قليلة. لكن كما كان متوقعا فإن علي حسن المجيد، وقصي، وعبد حمود، وعزت إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان، والأخوان حسين وصدام كامل، وبقية خلصاء صدام كان الأمر بالنسبة إليهم لعبة سهلة.
لم تردعهم الولايات المتحدة الأميركية، ولا الأمم المتحدة عن استعمال المدافع، والعربات المصفحة، والمروحيات المقاتلة فيما اقترفوه من مذابح شاملة. كان انتقام صدام بشعا، مثله مثل بشاعة تعقب الشيعة المحموم لرجاله، في بداية الحرب الأهلية.
في يوم السابع من مارس، والحرب الأهلية على أشدها، أقلني في الضحى اثنان من حرس صدام الخاص لأتفقد حالة خنصر الرئيس.
في بادئ الأمر أقلاني إلى منزل صغير على مقربة من الجسر المعلق فوق نهر دجلة الذي حطمته القنابل، حيث كان ينتظر هناك اثنان آخران من الحرس الخاص، وتوجها بي إلى قصر الرئيس في الرضوانية. أما الجسر المدمر الذي يمر فوق الطريق السريع للسيارات والمؤدي إلى المطار الدولي فقد تم إصلاحه بعد الحادث المؤسف الذي تسبب فيه سائق سيارة النقل في العام السابق له.
في صالة الانتظار بالقصر كان عليَّ الانتظار بعض الوقت سويا مع عبد حمود، سكرتير الرئيس، وأصغر أبنائه قصي. ظهر صدام علينا مرتديا معطفا حربيا أسود اللون. صافح صدام ابنه وعانقه بطريقة تنم عن أنه لم يره منذ فترة طويلة.
بعدها تحول صدام إليّ.
«كيف حالك، يا طبيب، يا عظيم»؟
أجبته: «بخير»، لألقي بعدها نظرة متفحصة على خنصره الذي كان في أثناء ذلك قد شُفي شفاء كاملا.
«ما تعليق العراقيين على الأحداث»؟
«آسف يا ريس، لكنني لم أتحدث مع ما يكفي من العراقيين حتى أستطيع الإجابة عن هذا السؤال إجابة شافية».
ما هي الصورة؟
لم يُسَلِّم الرئيس بالأمر، وقال لي: «إذن احكِ لي على الأقل عما يقوله هؤلاء القليلون الذين تحدثت معهم».
«ينتابني الشعور بأن ما لقيه الجيش العراقي من مصير ومهانة يخلفان لديه المرارة. ولكنني إذا ما سألت عن غير ذلك من الأمور فإنني عادة ما يساورني الشك في أن ما يقال لي هو الحقيقة فعلا».
قبل أن يقلني الحارسان الشخصيان كنت قد تحدثت مع كبار الأطباء، وكبار الممرضات في مستشفي الواسطي. أردت أن أعرف ما تبدو عليه الصورة في مختلف الأقسام. هل كان في مقدورنا الاعتناء بكل المصابين الذين نُقلوا إلينا تباعا بشكل مُرضٍ؟ بطبيعة الحال كان كل شيء على أتم وجه، فقد كان هناك ما يكفي من الأدوية ومن بقية التجهيزات، كما لم يكن هناك نقص في الأفراد العاملين.
واصلت حكاياتي قائلا: «لكنني عندما قمت بنفسي في أعقاب ذلك بجولة تفتيشية اتضح لي أن ثمانين في المائة مما أخبروني به لم يكن صحيحا».
ابتسم الرئيس، مضيفا: «أو ربما أكثر من ذلك بكثير».
واصلت حديثي قائلا: «إن انعدام الصراحة مشكلة كبيرة في عموم الإدارة. لو أنني كنت قد صدقت ما قاله لي العاملون من معلومات لكان قد غُرر بي، ولوقعت أخطاء فيما أقوم به من خطط قائمة على هذه المعلومات. وكما قلتُ من قليل يا ريس، فإننا يجب أن نتنبه إلى أفعال الناس، وليس أقوالهم».
صمت الرئيس على إثر ذلك.
المجيد الخبير بالقتل:
نقل صدام الى ابن عمه علي حسن المجيد المسؤولية الرئيسية لقمع انتفاضة الشيعة. كان المجيــــد قد تــــولى قيادة القوات التي زحفت على الكويت. ربما كان ما قام به من قتل لا هوادة فيه في شمال العراق هو الأمر الذي رشحه في نظر صدام لمهمته الجديدة في جنوب العراق.
في مارس من عام 1987، أي بُعيْد الحرب ضد إيران، تولى ابن العم علي حسن المجيد ذو الستة والأربعين عاما التفويض الكامل بقمع حرب العصابات الدائرة لتحرير المناطق الكردية في الشمال بقيادة مسعود برزاني وجلال طالباني.
مجزرة الأنفال
لا توجد أرقام مؤكدة، ولكن بعد عامين ونصف العام كان علي حسن المجيد قد أمسك بما يقرب من 50 ألفا إلى 100 ألف من الذكور الأكراد ما بين الخامسة عشرة والخمسين عاما، وصفّاهم جسديا. أُحرقت ما يقرب من ألفي قرية، وسويت بالأرض. شُرد مئات الآلاف من البشر، كما دُمرت جميع خطوط الكهرباء، والمدارس، والآبار، والمساجد في هذه المناطق.
في أثناء إحدى العمليات التي حملت الاسم الحركي «الأنفال» لم يتورع ابن العم عن استعمال الغاز السام، ففي يوم السادس عشر من مارس من عام 1988، دخل المجيد التاريخ من أوسع أبوابه، حينما قصفت الطائرات العراقية قرية حلبجة الكردية بخليط من غاز الأعصاب وغاز الخردل. كانت النتيجة أن فقد ما يقرب من 3200 إلى5000 شخص حياتهم.
بهذه المناسبة حصل علي حسن المجيد أيضا على اسم الشهرة «علي الكيماوي».
كثير من أقارب صدام، وأقرب معاونيه كان لديهم الرغبة في المشاركة في قمع التمرد في جنوب العراق، فقد كان من مقتضى الحال أن يثبتوا للرئيس أن علي حسن المجيد ليس وحده من يمتلك من العنف والقوة ما هو مطلوب لتلقين الشيعة درسا لن ينسوه سريعا.
كان كلا زوجي الابنتين، حسين، وصدام كامل، وابنه قصي، وسكرتير الرئيس عبد حمود، ونائب الرئيس طه ياسين رمضان، وعزت إبراهيم الدوري، نائب الرئيس لأعلى جهاز حكومي، أي مجلس قيادة الثورة، قد أعلنوا على الرحب والسعة عن خدماتهم عندما تأكد أن الولايات المتحدة، ولا أي بلد آخر سيتدخل في الحرب الأهلية الدائرة.
عدي لا يريد قتل الشيعة:
كان عدي هو الوحيد الذي رفض المشاركة. روي لي صديقه وسكرتيره الخاص أن قصي حاول جاهدا أن يقنع أخيه.
«لا بد أن تقود أنت أيضا إحدى الوحدات»!
أجاب عدي: «لا، ليس عندي الرغبة في اغتيال الشيعة».
بــدا صدام لي في ضحى هذا اليوم من أيام شهر مارس ــ والحرب الأهلية على أشدها ــ في قصره في الرضوانية هادئا، ومسترخيا. بعدما فحصت خنصره، بادرني بالقول: «ما رأيك في الذي حدث»؟ فوجئت بهذا الاستفسار. وقلت أرجو أن تسمحوا لي بجمع عددي الطبية ومن ثم أجيبكم، وفي الحقيقة كنت أريد أن أحظى ببضع دقائق لأستجمع فيها أفكاري قبل الإجابة. قلت «لو أنكم دخلتم إلى غرفة ووجدتم فيها قتيلين بالرصاص وصف أحدهما بأنه شهيد والآخر بكونه خائنا. فكيف يمكنكم معرفة صفة أي منهما»؟ قال: «طبعا لا أعرف». فاسترسلت قائلا: «مظاهر الأشياء لا تدلل على جوهرها، وإن كلام الناس هو المظهر وليس جوهر الحقيقة. والواقع أن مسؤولي الدولة اعتمدوا على كلام الناس في تقييم الحقائق والبشر، في حين أن العمل هو المقياس الحقيقي. لذلك فان ما جرى هو نتيجة هذا الخلط».
دعوة للتمشي
حملق صدام في وجهي طويلا، وشعرت أنه كان يحاول أن يسبر غور أفكاري بعد الذي قلته. وبعد برهة من الوقت استفسر صدام عما إذا كنت في عجالة من أمري. فإذا لم يكن الأمر كذلك فإنني مدعو لأرافقه في التمشي في الحديقة ليناقشني في أمر من الأمور.
كانت الأمطار قد هطلت طوال الصباح، غير أن الشمس أطلت بعد ذلك بأشعتها من بين السحب. أمام البوابة الرئيسية للقصر كان هناك جدار جديد من الطوب قد تم بناؤه.
قال الرئيس: «من شأن هذا الجدار أن يشتت صواريخهم المبرمجة من قبل من طراز كروز».
من وقت إلى آخر كان علىنا تجنب نُقَر كبيرة من الماء موجودة على الطريق. تبعنا قصي وعبد حمود بمسافة قدرها ثلاثون مترا تقريبا.
قال صدام: «كان علي أن أفكر في شيء ما في الأيام الثلاثة الأخيرة. إن عرب المستنقعات (الاهوار) ليسوا عربا بمعنى الكلمة».
كان ما يقرب من نصف المليون من عرب المستنقعات يعيشون في مناطق المستنقعات المغطاة بالبردي التي لا مثيل لها في تاريخ الطبيعة والواقعة شمال البصرة، حيث يلتقي نهرا الفرات ودجلة. ولكن في نهاية الثمانينات اتضح أن هذه المجموعة السكانية كان يزحف علىها مستقبل مجهول للغاية.
كان من المخطط تجفيف المنطقة بأكملها، ومعها المستنقعات. بدأ العمل بالفعل في هذا المشروع الذي كان سيرغم غالبية عرب المستنقعات الذين يعيشون هناك منذ مئات السنين على ترك أكواخهم المصنوعة من البردي وقُرَاهم.
يتسبب كل من أسلوب الري، وزراعة الحبوب والخضراوات تحت شمس الشرق الأوسط الحارقة بتبخر كميات هائلة من الماء، وبتصاعد الأملاح الموجودة في التربة إلى سطحها. تؤدي ظاهرة البزل إلى غسل الرواسب الملحية في اتجاه الأنهار، حيث ينتهي بها المطاف في الظروف الطبيعية من النهر إلى البحر. غير أن المستنقعات في العراق كانت كإسفنجة كبيرة تحول بين الاثنين، وتمنع الماء القادم من مناطق الزراعة الرئيسية في داخل البلاد من الوصول إلى الخليج العربي. منذ عام 1948 نصح الباحثون الإنكليز بفعل شيء تجاه ذلك الأمر، ومنه تحويل مسار كلا النهرين العظيمين الواهبين للحياة من حول المستنقعات إلى البحر، وإلا فإن العاقبة ستكون تصاعدا مستمرا في محتوى الملح في نهري الفرات ودجلة تصل إلى مستوى الكارثة.
التخلص من الأهوار
بالطبع، كانت هناك أيضا أسباب سياسية لموافقة صدام على مشروع الصرف الشامل لهذه المحميـــة الطبيعية البالـغة مساحتها بين 15 إلى 20 ألف كيلومتر مربع؛ فلم يكــن عنده مانع من أن يضرب عصفورين بحجر ليتخلص نهائيا من عرب المستنقعات.
فقد كانوا بالنسبة إليه منذ زمن بعيد كالغصة في الحلق.
قال صدام: «منذ ألف ومائتين وخمسين عاما أتوا بثيرانهم السوداء من الهند لأن العباسيين كانوا في حاجة إلى أيدٍ عاملة. ولكن منذ ذلك الوقت لم يطوروا من أنفسهم. هم ليسوا مثل غيرهم من العراقيين، فهم بلا أخلاق».
في أثناء الحرب ضد إيران فر كثير من جنود الجيش العراقي ليختبئوا - بالذات - في هذه المستنقعات المليئة بالبردي والقصب الطويل والمستعصي عادة على الاختراق، حيث وجد كثير منهم العون من أهالي المنطقة التي لجأوا إلىها بحثا عن الملاذ.
لم يغب هذا أيضا عن الرئيس. في أثناء ذلك أُعلن أيضا أن عرب المستنقعات ضالعون في التمرد.
«لقد شجعوا التمرد، فهم لا يشعرون بالانتماء إلى وطننا»!
قالها بلا مواربة، لكنني شعرت أنه كان يبحث عن تفسير للتمرد المعترم في الجنوب، وعن كبش فداء.
«لا يمكن الوثوق بعرب المستنقعات هؤلاء. إنهم يكذبون، ويسرقون، وليست عندهم نخوة. إنهم ليسوا مثلنا. كما أن نساءهم يتسمن بالإباحية المطلقة وبانعدام الأخلاق. إن حياتهن غير محترمة».
توقفنا عند غدير صغير في الحديقة. أضاءت أشعة الشمس الرئيس من الخلف. لم يكن يعد أحدنا إلا بمسافة نصف المتر أو ما دونها. أثارت أذناه إعجابي فجأة حتى أنني لم أعد أسمع ماذا كان يقول. كانت شحمتا أذنيه شفافتين بفعل ضوء الشمس، كما لو كانتا مصنوعتين من شمع رمادي اللون، وكما لو كانت الدماء لم تعد تجري فيهما مطلقا. لم أستطع أن أمنع نفسي من تأمل جفنيه عن كثب. كانا ثقيلين، مرتخيين، وقد غطيا رموشه تقريبا. لكن عينيه لا تزالان تحملقان وتشعان بريقا من عدم الثقة والتوجس.
عرب.. أمة عظيمة
بعدما انتهى موضوع «عرب المستنقعات الغدارين والخونة» بدأ الرئيس في طريق العودة إلى القصر في إلقاء محاضرة عن مدى تقديرنا العظيم لأنفسنا كعراقيين لكوننا عربا من ناحية، ولتمسكنا بالدين الإسلامي من ناحية أخرى.
قال لي: «لأننا عرب، فنحن أمة عظيمة، زاد من عظمتها كثيرا أنها بُنيت على الإسلام».
بعد ذلك أراد الرئيس أن يعرف لماذا سميتُ ابني الأكبر سومر.
سألني: «لماذا بالذات هذا الاسم»؟
أجبته بقولي: «لأقرنه بمهد الحضارات، مملكة السومريين». لا أستطيع إلى الآن تخيل أن أجدادنا الأوائل منذ خمسة أو ستة آلاف عام قد بدأوا بالفعل في الكتابة، وفي زراعة الأرض، وفي بناء المدن وسن القوانين واحترامها.
لا أحد يعرف كم من الناس قُتلوا أو اعتُقلوا حينما سُحِق بشكل كامل التمرد العفوي للشيعة في غضون أسابيع قليلة. لكن كما كان متوقعا فإن علي حسن المجيد، وقصي، وعبد حمود، وعزت إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان، والأخوان حسين وصدام كامل، وبقية خلصاء صدام كان الأمر بالنسبة إليهم لعبة سهلة.
لم تردعهم الولايات المتحدة الأميركية، ولا الأمم المتحدة عن استعمال المدافع، والعربات المصفحة، والمروحيات المقاتلة فيما اقترفوه من مذابح شاملة. كان انتقام صدام بشعا، مثله مثل بشاعة تعقب الشيعة المحموم لرجاله، في بداية الحرب الأهلية.
khalid- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 313
۞ تاريخ التسجيل : 26/10/2007
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى